Наша культура в противостоянии времени
ثقافتنا في مواجهة العصر
Жанры
والذي يهمنا في هذا الصدد، ليس هو أن هذين الباحثين الجليلين قد نقلا إلينا نصين من أهم النصوص السارترية وكفى، بل هو أن في حياتنا الفكرية من العناصر ما يستلزم أن ندعمه بأمثال هذه النصوص؛ لما بيننا وبينها من رباط وثيق، وأخيرا أصدر سارتر كتاب «الكلمات» ليكون سيرة حياة، فنقله إلى العربية الدكتور خليل صابات، وبذلك اكتملت لنا صورة بوجهيها: الذات وما تدعو إليه.
لكننا نعلم أن سارتر قد جسد فلسفته النظرية في شخوص أدبية ومواقف روائية ومسرحية، ولقد قام أدباؤنا بنقل طائفة من روايات سارتر ومسرحياته - إما ترجمة كاملة أو تلخيصا لمادتها - أخص بالذكر منها مسرحية الذباب التي ترجمها الدكتور محمد القصاص .. وإنني ها هنا لألتمس المعذرة عند قارئي؛ لأنني قليل العلم بما ترجم عن سارتر في سائر الأقطار العربية الشقيقة؛ فقد قيل لي إن «المواقف» قد ترجمت كلها بجميع أجزائها كما ترجمت رواية الغثيان ومعظم المسرحيات.
على أن الترجمة لم تكن هي كل ما صنعناه بفلسفة سارتر، بل أضفنا إليها تأليفا عنه فيما لا يكاد يحصى من الكتب والمقالات، ولو كان لي أن ألفت النظر إلى مؤلف واحد قبل سواه، لذكرت الدكتور زكريا إبراهيم.
وقد بلغت عناية أدبائنا بسارتر أن تعقبوا كثيرا مما كتب عنه في أوروبا وأمريكا، وكان من أهم ما صدر تجميعا وتنسيقا لما قيل، كتاب مجاهد عبد المنعم مجاهد، وعنوانه «سارتر .. عاصفة على العصر».
وبديهي أننا لم نترجم ولم نلخص ولم نؤلف لنقف من هذا كله في صمم، بل كان لا بد أن تسري العصارة في مداد الأقلام عند طائفة من كتابنا؛ وإني لأسوق من هؤلاء مثلا واحدا بارزا، هو كاتبنا، النابضة كتابته بكل ما في حياتنا المتوثبة المتطورة من نبض سريع، الأستاذ أنيس منصور، وإني لأفتح كتابه «يسقط الحائط الرابع» لأقرأ في رأس أولى مقالاته قوله: «إن كل فلسفة لا تقاوم الجوع في العالم لا تساوي وزنها ورقا .. إن كل كاتب لا يتعذب عند رؤيته لطفل جائع هو كائن قد صفى حسابه مع ضميره، ومع مسئوليته، كاتبا وإنسانا ...» أقرأ له هذه البداية، فأهتف لنفسي: هذا كاتب قد تدفقت السارترية في دمائه.
2
لقد صبرت على قلق خلال الأسطر السابقة، وإني لموقن أنها لم تشتمل من جهود الجاهدين إلا لمحات موجزة سريعة، هي أشد ما تكون تقصيرا وقصورا، وموقن كذلك أن مئات القراء سيهمسون لأنفسهم وهم يقرءون: لماذا يذكر فلانا وفلانا ممن بذلوا جهدا في الفلسفة السارترية ترجمة أو تعليقا؛ ولكنني - فضلا عن قلة إلمامي بكثير جدا مما كتب في هذا السبيل - قد كنت على قلق يدفعني إلى الإسراع، حتى أوضح ما أردته حين قلت إن اتجاهنا نحو «العقل» و«الحرية» فيه مشاركة واضحة للدعوة السارترية - عن قصد أو عن غير قصد - ذلك لأنني أرجح أن يسأل سائل: أتعد الوجودية بكل أشكالها نزوعا نحو «العقل»؟ أليست مندرجة في النزعات «اللاعقلية» حتى ليوصف العصر كله أحيانا بأنه عصر «اللامعقول»؟ إن دارسي الفلسفة ليعلمون أن الفلاسفة ضربان متميزان - وإن يكن أحدهما مكملا للآخر - ففريق منهم يتجه باهتمامه نحو «الحياة» الإنسانية المتعينة المتجسدة في أفراد الناس، على حين يتجه الفريق الآخر باهتمامه نحو «الفكر» في تجريده الذي لا لحم له ولا دم، ولا قلب ولا تنفس؛ أما الأولون فيجعلون مجرى التجربة الداخلية مدار بحثهم أساسا، وأما الآخرون فمدارهم التصورات العقلية؛ الأولون منهجهم حدسي والآخرون منهجهم بناء النسق الاستنباطي، الذي يهبط فيه الاستدلال من المبدأ إلى نتائجه ... إلى آخر هذه الفوارق التي تميز فلاسفة الحياة من فلاسفة الفكر النظري. وإذا كان سارتر - بحكم فلسفته الوجودية - من الفريق الأول؛ ففيم القول بأن نزعتنا «العقلية» تقربه منا، وتقربنا منه؟
نعم، لقد خشيت أن يلحظ قارئ عند قراءته للأسطر الأولى من هذا الحديث شيئا من المفارقة، فأردت أن أسرع إلى بيان ما أعنيه؛ وهو تلك العودة التي عاد بها سارتر - مع غيره من فلاسفة العصر - إلى ربط الوجود الإنساني ب «الوعي» أو «اللاشعور» بعد أن كانت الموجة الفرويدية قد ربطته باللاوعي أو اللاشعور. والحق أن الموروث الفلسفي كله تقريبا لم يخرج على هذا التقليد، حتى جاءت مدرسة فرويد فشذت عن جادة الطريق؛ فلم يكن الإنسان عند أرسطو وسائر القدماء إلا الكائن «الناطق»؛ أي «المفكر» - والفكر والوعي مترادفان - ثم جاءت العصور الحديثة بادئة بأبي الفلسفة ديكارت، الذي أقام فلسفته على الكوجيتو المعروف : «أنا أفكر فأنا موجود»؛ أي إن الفكر الواعي هو شرط الوجود الإنساني ؛ وكذلك قل في مسار الفلسفة التجريبية، حين جعلت قوام المعرفة الإنسانية انطباعات الحس، فهي إذن «واعية». وتناول «كانت» المعرفة العلمية بتحليله الفذ، فردها إلى حدوس حسية ومقولات عقلية، وكلاهما يكون الحياة الواعية. وظهرت مدارس علم النفس التجريبي بشتى صورها، لكنها أجمعت على أن تجعل «الوعي» قوام الحياة النفسية عند الإنسان؛ إلا صاحبنا فرويد وأنصاره وتابعيه، فقد ضرب ضربته التي دوت في دنيا الثقافة بجميع أرجائها، وما تزال تدوي، وإن تكن صائرة إلى خفوت، وهي أن الإنسان حقيقته تكمن في اللاوعي؛ نعم، إنه يقيم النفس الإنسانية من ثلاثة طوابق؛ يجعل الوعي أحدها، يأتي دونه شبه الوعي، الذي يكمن فيه من ماضينا ما نستطيع أن نتذكره، وهناك دون هذا وذاك يقبع اللاوعي، الذي هو الأساس الخبيء في تحريك الإنسان، فيما يرى فرويد.
ويجيء «علم الظواهر» على يد هوسرل - أو «الظواهرية» أو «الظاهراتية»، كما قد تسمى عند مختلف الكتاب عندنا - فيلفتنا نحو «الوعي» مرة أخرى؛ أنه يعود بنا إلى ديكارت من جديد، ولكن بعد إضافة مهمة جدا؛ فلئن كان الوعي مجرد الوعي عند ديكارت شرطا للوجود الإنساني (أنا أفكر إذن أنا موجود)، بغض النظر عن علاقة ذلك الوعي بما يشير إليه من أشياء هي التي تكون موضع الوعي منا؛ فقد أكد هوسرل أن الوعي لا يكون إلا وعيا بشيء، فإذا قلنا إن ثمة وعيا بكرا خالصة نحدسه في ذواتنا من داخل، فقد قلنا حتما وبالضرورة إن ثمة أشياء وحالات هي التي نعيها بذلك الوعي، ومن ثم يتحتم وجود «الآخر» مع وجودنا الواعي.
وليس هوسرل و«علم ظواهره» هو موضوع حديثنا، لكنه سارتر الذي تبع هوسرل فيما ذهب إليه من أن الجذور الأولية في حياتنا النفسية إنما هي «الوعي» - ولا ذكر للاوعي الذي تعلق به فرويد ومدرسته - وعلى سبيل المقارنة نقول إن ديكارت كان يعلق الوجود على الفكر - أي الوعي - فجاء سارتر ليعلق الفكر - أي الوعي - على الوجود، فديكارت بمنزلة من يسألك : هل أنت ذو فكر؟ إذن فأنت موجود ولا شك في وجودك؛ وأما سارتر فبمنزلة من يسألك: هل أنت موجود؟ إذن فأنت ذو فكر ووعي.
Неизвестная страница