Наша культура в противостоянии времени
ثقافتنا في مواجهة العصر
Жанры
3
عند هذا المنحنى من سياق الحديث، ينبغي الوقوف لحظة قصيرة نتساءل فيها عن المعنى المحدد الواضح لكلمة «عقل»، ما دمنا قد جعلنا الاحتكام إلى العقل أساسا تقام عليه الحضارات حيثما قامت، وبغيابه تنعدم الحضارة كلما انعدمت، فما هذا الذي نسميه «عقلا»؟ هو ببساطة شديدة ذلك النمط من أنماط السلوك الذي يتبدى عندما نحاول رسم الطريق المؤدية إلى هدف أردنا بلوغه؛ فليس الهدف المختار في ذاته «عقلا»؛ لأنه وليد الرغبة وحدها، وليست النقطة التي أبدأ منها السير على الطريق «عقلا»؛ لأنها مبدأ مفروض، أما «العقل » بمعناه الدقيق فهو ببساطة شديدة - كما قلت - رسم الخطوات الواصلة بين هذا المبدأ المفروض من جهة، وذلك الهدف المطلوب من جهة أخرى. فافرض مثلا أن أمة أرادت الحرية لأبنائها؛ إذن فهذه الحرية المنشودة هي الهدف المقصود، والفاعلية العقلية في هذه الحالة هي في دقة التصوير لما ينبغي أن يتخذ من وسائل لتحقيق ذلك الهدف، وبمقدار ما يكون لتصور الوسيلة من دقة تمكن الناس من السير على هداها فلا ينحرف بهم الطريق؛ يكون لدينا من قدرة عقلية في هذا المجال.
وننظر الآن إلى أثينا بركليز، وبغداد المأمون، وفلورنسة آل مديتشي، وباريس فولتير، فلا نخطئ فيها جميعا هذه الصفة البارزة؛ هي أن قبول الأشياء ورفضها لم يكن قائما على عواطف الحب والكراهية، والرضى والسخط، ولا كان قائما على التقاليد الموروثة قياما أعمى، بل كان القبول والرفض قائمين - على وجه التعميم الذي قد يشذ هنا أو هناك - كانا قائمين على حكم العقل ومنطقه، فكأنما الناس يسألون عند كل وقفة يقفونها من موضوع مطروح: هل الخطوة الفلانية إذا خطوناها أبلغتنا إلى الأهداف؟
وإن عقلانية كهذه في النظر إلى أمور الحياة والثقافة معا، لتستتبع صفات فرعية كثيرة، تنتج عنها كما تنتج الثمرات من شجراتها، ومن أول هذه النتائج النابعة من ذلك المبدأ العقلاني، أن تتخذ الأشياء نسبها الصحيحة بعضها من بعض، فيبدو الكبير كبيرا كما هو، والتافه تافها كما هو؛ فقد تهتم الدولة المتحضرة بمسألة علمية تريد لها أن تستقر في الناس، ولكنها تغضي عن توافه السلوك التي ربما اختارها هذا الرجل أو ذاك طريقة لحياته الخاصة، مع أنك إذا نظرت إلى جماعة غاب عنها العقل واستبدت بها النزوة في أحكامها؛ فقد تراها وهي تقيم الدنيا ثم لا تقعدها، تجاه سلوك خاص اصطنعه خالد أو زيد في حياته الخاصة، بينما تعشى عينها عن رؤية تيار بأسره في دنيا العلوم أو الفنون.
ومن النتائج التي تترتب على الوقفة العاقلة كذلك، إيثار الآجل على العاجل، إذا كان في العاجل خير قليل قد يعقبه شر كثير، أو كان في الآجل خير كثير قد يسبقه شيء من ألم التضحية.
ومن أبرز جوانب النظرة العقلانية أن ترد الظواهر إلى أسبابها الطبيعية؛ فلا يفسر المرض - مثلا - إلا بالجراثيم التي أحدثته، ولا يعلل سقوط المطر إلا بظروف المناخ ... وهكذا، ويترتب على هذا الربط السببي الصحيح أن نلتمس للأشياء أسبابها الطبيعية كذلك، فإذا أردنا غلالا زرعنا لنحصدها، وإذا أردنا قتالا حملنا له السلاح بمران واقتدار.
النظرة العقلانية تنظر إلى الواقع كما هو واقع، لتحوره إلى واقع جديد إذا أرادت، دون أن تقيم بينها وبين الواقع حائلا تنسجه الأوهام، ثم سرعان ما ننسى أنه أوهام، فإذا كان البدائي يخلق لنفسه الخرافة لينظر بمنظارها إلى وقائع الدنيا، فإن المتحضر هو الذي يواجه تلك الوقائع كما تبدو لبصره وسمعه، وبغير هذه الرؤية العارية المباشرة، كان يتعذر عليه أن يلجم الطبيعية ليسير وقائعها حيث أراد لها أن تسير.
على أن أبرز ما تتميز به النظرة العقلية إلى الكون؛ هو حب الإنسان للمعرفة، حيث يلم بأسرار البيت الذي هو ساكنه؛ فالعقلاني في نظرته ذو نهم نحو معرفة الحقائق والطبائع والعلل، لا يصده عن ذلك شيء من التحريم الذي يفرضه البدائيون على أنفسهم، من منا لا يذكر الحكايات التي كانت تحكى لنا ونحن صغار، عن القصر ذي الغرف الكثيرة، الذي يستباح الدخول في غرفه كلها إلا غرفة واحدة محرمة؟ ذلك هو الإنسان إذا ترك لفطرته: يتهيب نزع الستائر عن حقائق الأشياء، وحتى إذا جاز لنفسه أن ينزع بعضها، أوجب على نفسه أن يترك بعضها الآخر مسدولا على كوامنه، إلا من جعل السيادة لعقله، فذلك هو بروميثيوس - في أساطير اليونان - الذي نزع الشعلة من أيدي الآلهة ليضيء بها أركان الأرض فلا يترك منها ركنا خافيا في عتمة الظلام؛ هكذا كانت أثينا حين أمسكت بقبس النور لتتفحص الدنيا على ضيائه، وهكذا كانت بغداد المأمون حين أخذت تعب معارف الأولين عبا لم يكد يفرق بين شراب وشراب؛ فكل شراب من مورد العلم عندها سائغ، وهكذا كان عصر النهضة وعصر التنوير في أوروبا .
4
سلطان العقل - إذن - هو مدار القياس لدرجات الحضارة؛ فقل لي كم عقلت أمة في تدبيرها لأمورها؛ أقل لك كم صعدت في مدارج التحضر، وأقول سلطان العقل ولا أقول مضاء الإرادة؛ فالأولوية في البناء الحضاري للعقل وفكره، قبل أن تكون للإرادة وفعلها، نعم، إنه لا بد من التفكير العقلي من إرادة التنفيذ، لكنها عندئذ تكون إرادة ملجمة بتخطيط العقل، وأما إذا بدأنا الشوط بإرادة تفعل؛ فمن ذا الذي يضمن لنا ألا يجيء فعلها تخبطا أهوج، يتجه بنا نحو اليسار إذا كان الاتجاه إلى يمين هو الموصل إلى الهدف، أو يتجه بنا نحو اليمين عندما تقتضي حكمة العقل أن نسير إلى يسار؟
Неизвестная страница