Наша культура в противостоянии времени
ثقافتنا في مواجهة العصر
Жанры
واختر ما تشاء من أمثلة رجال الفكر في عصرنا؛ اختر مثالك من فلاسفة الوجودية في فرنسا، أو من فلاسفة التحليل في إنجلترا، أو من فلاسفة البرجماتية في أمريكا، أو من فلاسفة المادية الجدلية في روسيا؛ تجدك أمام نقاش نظري مجرد، لا يذكر لك شيئا عن زيد في حقله، وما يلاقيه من مشكلات في ري الأرض وحرثها، ولا يذكر لك شيئا عن عمرو في مصنعه، وما يعانيه هناك من طرق الحديد وتشكيل القضبان، لكنه نقاش إما يغوص بك في أغوار عميقة من النفس الإنسانية ليظهر ما كمن فيها من عوامل القلق والحيرة، لا نفس زيد ولا عمرو، لكنها «النفس» بمعناها المجرد المطلق، وإما يدخلك في دقائق جملة لغوية يحلو لرجل الفكر أن يحللها ليضع تحت المجهر طرائق الناس في لفتات تفكيرهم كيف تكون، وإما يرد لك كل شيء في حياتك إلى واقع مادي يتسلسل سيره في حلقات متتابعة من التطور النامي، ولن تجد في أية حالة من هذه الحالات أن «مشكلات الحياة» من أخذ وعطاء، وبيع وشراء، وطعام وشراب، وثياب ومسكن، قد حلت صعابها، لا كثيرا ولا قليلا؛ لأن الذي يحل هذه الصعاب هم أصحاب التخصصات العلمية في الزراعة والصناعة وتبادل السلع ونسج الأقمشة وبناء البيوت، لكنها - برغم ذلك - مناقشات ينفذ أصحابها من خلال المشكلات الراهنة إلى الأسس والمبادئ التي اندست في طواياها، لنعود هابطين مرة أخرى من تلك الأسس والمبادئ إلى أرض الواقع، فإذا هو مفهوم واضح، فنزداد بحياتنا وعيا، ونزداد لمشكلاتها إدراكا.
وبعد هذا كله، فإني أقرر أن رجل الفكر ملتزم أمام نفسه وأمام الناس؛ ملتزم بماذا؟ إنه ملتزم بالخوض مع الناس في مشكلاتهم، ولكن ذلك يتم له بطريقة «المفكر» لا بطريقة «الأديب» ولا بطريقة «العالم المتخصص » ولا بطريقة الصحفي الذي ينقل الخبر عن الشيء كما وقع؛ فلكل من هؤلاء طريقته إزاء المشكلة الواحدة، ومن الخير أن يلتزم كل منهم الطريقة التي يحسن أداءها، وقد يجتمع أكثر من طريقة واحدة في شخص واحد موهوب، فتراه يتعرض للمشكلة على صورة معينة هنا، وعلى صورة معينة هناك، كما يحدث لسارتر - مثلا - أن يعالج مشكلة ما بالفكر المجرد حينا، وبالقالب المسرحي حينا آخر.
كل هؤلاء يلتزمون «الحق»، لكن معيار الحق متعدد الصور بتعدد طرائق القول؛ فلئن كان الحق عند الصحفي - وهو ينقل للناس خبرا عن مشكلة من مشكلات الحياة الجارية - هو أن يرسم صورة كلامية دقيقة التطابق مع تفصيلات الحادث كما وقع، فإن الحق عند الأديب - وهو يعرض للمشكلة عينها في قصة أو مسرحية - هو أن يجيد تصوير أشخاصه في تفاعلهم حتى لو لم يلتزم، بل لا ينبغي له أن يلتزم تفصيلات الواقع كما وقع، والحق عند العالم المتخصص وهو يخطط للمشكلة حلا، هو نجاح التطبيق، وأما صاحبنا المفكر فصورة الحق عنده هي دقة التحليل أو سلامة التعليل الذي يستطيع بهما أن يجاوز حدود الواقع إلى حيث المبادئ الأولى التي على أساسها وقعت، أو إلى حيث النتائج القريبة والبعيدة التي عساها أن تترتب على تلك المشكلة.
خذ مثلا هذه المشكلة التي أعدها من أعقد مشكلات حياتنا الاشتراكية الجديدة، وأعني مشكلة التوازن بين احتفاظ الفرد بكيانه المستقل المسئول، وبين ضرورة أن يكون هذا الفرد على صلات وثيقة بينه وبين سائر المواطنين، بحيث ينصهر معهم في مجموع واحد متصل؛ وسل نفسك: كيف يمكن لرجل الفكر أن يتناول هذه المشكلة إذا هو قصر نفسه على ظواهرها البادية في حياة الناس اليومية، دون أن يتعمقها إلى أصولها وجذورها، التي ربما ارتدت إلى الحياة القبلية الأولى؛ ذلك أننا إذ نلاحظ سهولة أن ينصهر الفرد منا في أسرته، نلاحظ أيضا إلى جانب ذلك صعوبة أن ينصهر ذلك الفرد نفسه في مجموعة المواطنين، من عرفهم منهم، ومن لم يعرفهم، على حد سواء.
أفإن فلسفنا الموضوع، وشرحنا كيف تتحقق ذاتية الشيء - أي شيء - بوجوده وبصفاته وبعلاقاته مع سائر الأشياء، وأخذنا نوغل في الجانب الصوري الخالص، الذي يبين أن الكائن الواحد محال تعريفه إلا بربط الصلة بينه وبين سواه، أقول أفإن فعلنا شيئا كهذا قيل لنا: على رسلكم، واحصروا أنظاركم في مشكلات الحياة؟! ذلك هو ما يطالبنا به نفر من الشباب الكاتب!
ضمير الكاتب ودستور المثقفين
ضمير الإنسان - كاتبا أو غير كاتب - هو ما يضمره في دخيلة نفسه من مبادئ يستخدمها في التمييز بين الطيب من سلوكه والخبيث؛ ولندع رجال الفلسفة يختلفون فيما بينهم على مصدر تلك المبادئ: من أين جاءت؟ أهي نابعة من فطرة الإنسان من حيث هو إنسان ذو طبيعة خاصة، أم هي ما بثه المجتمع في أفراده من معايير وجدها على طول السنين صالحة لبقائه؟ أقول: لنترك رجال الفلسفة يختلفون فيما بينهم على الضمير كيف نشأ، وحسبنا أنهم متفقون جميعا على وجود طائفة من مبادئ مكنونة مطوية بين الجوانح، توحي إلى صاحبها بما ينبغي فعله في كل موقف معين، فإما استمع صاحبها إليها فهدأت نفسه واستراح، وإما عصاها فتمزقت نفسه بين باطن وظاهر.
لكن هذا القول إذا صدق على كل إنسان مرة؛ فهو يصدق على الكاتب ألف مرة، لأن الكاتب بحكم وصفه هذا لا يكتم ما بنفسه في صدره، بل يخرجه في كتابة تصل إلى أي عدد شئت من الناس، بحسب ما يكون لهذا الكاتب من جمهور قارئ؛ إن الكاتب لا يكتب لنفسه، وإلا لاكتفى بالتأمل الصامت، هذه حقيقة واضحة بذاتها، لا تحتاج إلى برهان يؤيدها؛ وإنما جاء وضوحها الذاتي هذا من أن كلمة «كاتب» لا يتم معناها إلا بما يضايفها، وهو «القارئ»، شأنها في ذلك شأن كلمات كثيرة أخرى، فهل تتصور «والدا» بغير ولد، أو «معلما» بغير متعلم، أو «حاكما» بغير محكوم؟ لا، وكذلك لا يكون كاتب بغير قارئ - موجود بالفعل أو بالإمكان - وإذا كان هذا هكذا؛ فقد أصبح واضحا أن ليس من حق الكاتب أن يكذب في الرسالة التي يريد نقلها إلى قارئه؛ الكاتب «متكلم» يثبت كلامه على الورق؛ والقارئ سامع، والفرض في المتكلم أنه ينقل إلى سامعه نبأ جديدا، أو رأيا يراه، وإذن فالواجب الخلقي يقتضيه أن يكون صادقا فيما ينقله، لا أقول أن يكون مصيبا؛ لأنه قد ينقل ما هو خطأ بالنسبة إلى الحقيقة الخارجية، لكنه عند نقله لم يكن يعلم عن تلك الحقيقة الخارجية إلا ما كان قائما في اعتقاده، فليس على «المخطئ» في الرأي حرج ولا ضير، لكن الحرج كل الحرج، والضير كل الضير، على «الكاذب» الذي يقول بظاهر لفظه - منطوقا أو مكتوبا - ما لا يعتقد هو في صوابه، وذلك هو الضمير وما يمليه على صاحبه.
ليكن الكاتب من أي طراز شئت، ليكن كاتب قصة أو مسرحية، ليكن شاعرا أو شارح فكرة أو صاحب رأي؛ فهو في كل حالة، وفي جميع الحالات، مطالب بالصدق؛ ليتسق ظاهر لفظه مع باطن ضميره، وما أصدق الذي قال إن «لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده»! أما اللسان فهو النصف الخارجي الظاهر، الذي يتمثل في نطق المتكلم وفي كتابة الكاتب، وأما الفؤاد فهو النصف الداخلي، الذي نضمر فيه ما نضمره من مبادئ وأفكار، وكمال المرء هو في مطابقة النصفين، الباطن منهما (= الضمير) والظاهر (الكتابة والكلام وسائر أنواع السلوك)؛ لأنه لا يبقى بعد أن تختلج في فؤادك الفكرة ثم تصدق في التعبير عنها، لا يبقى بعد ذلك «إلا صورة اللحم والدم» التي يقيمها رغيف خبز وجرعة ماء.
فإذا سألتني: هل يكون لرجال الفكر والأدب والفن دستور يلتقون عنده جميعا، على اختلاف ما بينهم من وسائل التعبير، وعلى تباين ما تضطرب به أنفسهم وقلوبهم وعقولهم من مشاعر وأفكار؟ أجبتك: نعم، يكون لهم دستور ذو مادة واحدة هي أن يصدر كل منهم عن ضميره صدورا صادقا أمينا، فيخلص لنفسه وللناس؛ إنك إذا طالبت الكاتب أو الفنان ألا يخرج من ذات نفسه إلا ما يتفق مع أهوائك؛ كنت كمن «صادر على المطلوب» (في لغة المناطقة) لأنك عندئذ كمن يعلم النتيجة قبل مقدماتها، وكمن يرى النهاية قبل الطريق إليها؛ وإذن فما جدوى أن يكتب لك كاتب إذا كنت تعلم مقدما ما لا بد أن ينتهي إليه من نتائج؟ إن الأصل في الكتابة - بل في الكلام بكل أنواعه المفيدة - أن يحمل إليك جديدا لم تكن تعلمه قبل القراءة أو قبل الاستماع إلى حديث المتحدث، ومعنى ذلك كله - مرة أخرى - أن دستور المفكر والفنان الذي لا فكاك منه، هو صدقه مع نفسه ومع الناس، على اختلاف معنى «الصدق» في مجالي «الفكر» و«الفن»، مما لا مجال لتفصيل القول فيه الآن، لكن القاسم المشترك الأعظم في حالات الصدق كلها، هو التطابق بين طرفين، أحدهما داخلي وهو «الفكرة» أو «الرأي» أو «الشعور»، أو ما شئت من هذه المضامين، والآخر هو القول الذي جاء ليصوره؛ وأما انطباق هذا القول على الموقف الخارجي أو عدم انطباقه فأمران داخلان في باب الصواب والخطأ الذي يمكن فيه رد الخطأ إلى صواب، دون أن يكون في الأمر ما يمس أخلاق الكاتب أو الفنان، أعني: دون أن يكون فيه ما يخدش ضميره.
Неизвестная страница