لكن الحبشة ليست مصدر الحاميين والساميين في جهة واحدة؛ فالساميون أحرى أن يكونوا وافدين إليها على قلة محدودة، وليس من الموافق للأوضاع التاريخية ولا للمألوف من الهجرة هناك أو في جهات أخرى أن يكون الساميون المنتقلون من الحبشة أكثر من عشرات أمثالهم في موطنهم الأصيل بالبلاد الحبشية، ولم يحدث في عصور التاريخ المعروف أن كان المهاجرون من الحبشة إلى جنوب الجزيرة يزيدون عددا على الذين يهاجرون من جنوب الجزيرة إليها.
كذلك لم يحدث في حدود التاريخ المعروف أن ترحل الجماعات الكثيرة من بلاد الهلال الخصيب أو من أعالي العراق إلى الصحراء العربية؛ فليس هذا مما حدث في الواقع ولا مما يوافق المعهود في بواعث الهجرة وحركاتها المألوفة.
فمن المألوف أن يحدث الجفاف والجدب في البلاد الصحراوية فيرحل عنها أهلها، ومن التاريخ الواقع أن هذا قد حدث فعلا غير مرة في هجرة القبائل من جنوب الجزيرة وأواسطها إلى بلاد الأنهار أو بلاد الخصب الدائم والمرعى الموفور، ولكنه لم يؤلف ولم يحدث قط أن ينعكس الأمر فترحل القبائل أفواجا أفواجا من أرض الماء والمرعى إلى أرض تتخللها الصحارى الواسعة، ويطرأ عليها الجفاف والجدب في عهود متلاحقة، تكاد أن تنتظم في مواعيدها وأدوارها.
فمن الثابت أن جنوب الجزيرة كان مأهولا قبل ثلاثة آلاف سنة، وكانت له عمارته ومبانيه التي لا تنشأ في قرون قليلة، فهل كان وفود هؤلاء إلى الجنوب بعد سكان آخرين سبقوهم ثم انقرضوا أو انهزموا وخلفهم الوافدون على بلادهم؟ فمن هم أولئك السكان الأولون؟ وما لغتهم؟ وما الداعي إلى افتراض وجودهم؟ ومن أين جاءهم الوافدون اللاحقون وتغلبوا عليهم بالقوة التي تهزمهم؟ وما هي لغتهم وعلاقتها بالعربية؟
كل ما يمكن أن يقال عن ذلك: إنه تخمين لا دليل عليه ولا موجب له، ولا موافقة بينه وبين تجارب الواقع في أماكن الهجرة المطروقة من قديم الزمن، داخل الجزيرة العربية أو من حولها.
ولا صعوبة في تصور الهجرة من الجنوب إلى الشمال على حسب التجارب الواقعة، فلا تضطرنا وقائع التاريخ إلى السؤال عن أبناء البلاد الأصلاء في العراق أو بادية الشام أين ذهبوا ومن هم في أصولهم وما هي لغاتهم وأنباؤهم؛ فإن التاريخ يدلنا عليهم وعلى بقاياهم، وآثارهم حيث أقاموا قريبة من مواطنهم سواء كانوا من السومريين أو من الآريين أو من الطورانيين على التخوم الفارسية أو تخوم الصين، بعضهم لبث في الأرض، وبعضهم جلا عنها إلى ما وراء حدودها، وكلهم ترك من مخلفاته ما يتركه المغلوب المقيم أو المغلوب الذي زال عن البلاد.
فالثقافة العربية إذن هي ثقافة الأمة التي نشأت تتكلم اللغة العربية وعاشت تتكلمها كما كانت على الألسنة في كل دور من أدوارها على سنة التطور في جميع اللغات.
وقد كان أشهر اللغات السامية وأشيعها في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد ثلاثا بين جنوب الجزيرة وشرقها إلى الشمال وغربها إلى الشمال، وهي: اليمنية والآرامية والكنعانية؛ مما يدل على أنها نبتت في الجزيرة من الجنوب إلى مواطن الهجرة التي درجت عليها القبائل منذ فجر التاريخ، في طريق بحر العرب شرقا إلى وادي النهرين، أو طريق البحر الأحمر غربا إلى فلسطين.
ثم شاعت الآرامية وغلبت على سائر هذه اللهجات وتفرعت منها النبطية التي اتفقت الروايات على أنها أم لهجات الحجاز. ولم تكن الآرامية بعد شيوعها غريبة عن المتكلمين بالكنعانية أو الحميرية وعن الكاتبين بالحروف النبطية أو حروف المسند؛ فكان المقيمون والراحلون بين هذه الأرجاء يتخاطبون بها كما يتخاطب أبناء الأقاليم في القطر الواحد، أو كما يتخاطب أبناء وادي النيل اليوم من الإسكندرية إلى الخرطوم، مع اختلاف اللهجات والألفاظ في بعض المفردات.
ونحن نعلم أن مؤرخي العرب كانوا ينسبون شعوب العرب البائدة جميعا إلى «إرم» ويسمونهم بالأرمان كما جاء في تاريخ سني الملوك لحمزة الأصفهاني. ويجوز أن يكون الآراميون من سلالة هؤلاء الأرمان هاجروا إلى وادي النهرين في تاريخ مجهول، ولكن تاريخهم المعلوم يرجع إلى عهد دولتهم التي حكمت بابل، وقام منها بالأمر حمورابي صاحب التشريع المشهور (سنة 2460ق.م)؛ حيث سادت اللغة الآرامية وادي النهرين وبادية الشام وأرض كنعان وبلاد الأنباط، وظهرت لهجتها العامة - كلاما وكتابة - في كل قطر من الأقطار.
Неизвестная страница