فليست «الآرية» إذن منبع الثقافة اليونانية وسر الامتياز والتفوق الذي يخصهم به خلفاؤهم من الأوروبيين المحدثين، ولكنها الصلة بالشرق والاستفادة منه والتلمذة عليه ميزهم بها موقعهم الجغرافي فرجحهم على سكان المواقع النائية من إخوانهم الآريين.
وفي المرحلة الأولى قدم آباؤهم الأولون من القارة الآسيوية بعقائدهم الروحية كما أخذوها من منبعها، ويكفي منها ذكر اسم الإله عندهم «ذيوس» وهو من الهندية القديمة، وذكر أبي الأرباب عندهم، وهو اسم مركب من كلمتين بتلك اللغة وهما: «داوس باتر»: أي أبي الأرباب «جوبيتير»؛ وما بقي من تفصيلات ديانتهم المنسية ومعبوداتهم الأخرى فهو مركب على اعتقادهم برئيس جميع المعبودات وأبي الأرباب.
والمرحلة التالية لمرحلة الهجرة القديمة هي مرحلة الكتابة والصناعة، سواء جاءتهم من هجرة قدموس وزمرته الفينيقية، أو من هجرة تماثلها في مصدرها، فإنها من ثمرات الموقع الجغرافي الذي قربهم من أسباب التلمذة على الشرق المجاور لهم، والاستفادة من حركات شعوبه.
وتأتي المرحلة الثالثة بعد ميلاد السيد المسيح؛ فليس دخول اليونان في المسيحية إلا مرحلة في السبيل المطروق من مراحل التلمذة على الثقافة الشرقية: أدبية أو صناعية أو روحية.
ولم تكن مرحلة المسيحية خاتمة المراحل في هذه التلمذة العريقة؛ فإن الفتوح العثمانية أوشكت أن تفتتح في بلاد اليونان وما جاورها عهد ديانة جديدة، لولا اشتداد شيوخ الإسلام في فتاواهم على الدين الصريحة التي حرموا بها على السلاطين إكراه أهل الذمة.
وهذا هو حكم الموقع الجغرافي إلى جانب حكم التاريخ وحكم الآثار الباقية: حكم الموقع الجغرافي أن اليونان تلاميذ «طبيعيون» لكل ثقافة شرقية، كلما كانت للشرق ثقافة غالبة. فإذا وقف هذا المورد عند حد من الحدود أو وراء حاجز من الحواجز، فذلك هو الحاجز الذي يصد السيل عن مجراه ويتحول به إلى ينبوع سواه.
ثم الثقافة العبرية
إن سبق العرب للعبريين في ثقافتهم الدينية أوضح من سبقهم لليونان في ثقافة المعرفة وصناعات الحضارة، ووقائعه وقرائنه أقرب سندا من الوقائع والقرائن التي ألممنا بها في الصفحات السابقة؛ لأن السند القريب هنا مستمد من أسفار التوراة ومن أحوال المعيشة التي لا محل للخلاف عليها.
وقد أوجزنا القول فيما تقدم على العلاقات القديمة بين ثقافة العرب وثقافة اليونان بالقدر الذي تتسع له هذه الصفحات القليلة.
وسنجمل القول فيما يلي على بيان العلاقات القديمة بين ثقافة العرب وثقافة العبريين في الناحية الدينية، ونبدأ هذا البيان بما لا بد منه من تحقيق أصل العبريين وأطوار العلاقة بينهم وبين الأمة العربية إلى ما بعد ظهور الأنبياء والرسل في بني إسرائيل؛ فمن هم العبريون؟ وما هو أوثق الأقوال عن نشأتهم الأولى قبل أيام إبراهيم - عليه السلام؟
Неизвестная страница