في الصيف يخيل للمرء أن للدهر صوتا وفما، وأن لكل شيء منطقا وكأنما روحه قد ألهمت لغات الكائنات.
الصيف حلم جميل من أحلام الطبيعة، تحسب في الصيف أن صانعا صبغ الوجود صبغة جديدة، فتلمس الزهر ثم تنظر في يدك لترى أثر طلاء لونه الجديد، ويخيل لك في الصيف أن الروح بركة صافية تنطبع فيها صور الحياة كما تنطبع صور الروض في غدرانها، وأن ألوان الصيف كئوس مثل كئوس الرحيق ينتشي المرء منها كما ينتشي من الخمر المعتقة. أما في الشتاء فإن جفاء الطبيعة وجيع مثل جفاء الأحباب، والجمال ضياء السعادة وزهرها، فإنه ينسي المرء الشقاء والشر حتى يحسبهما حلما من أحلام النوم، فيكاد لا يرى للشقاء والشر سبيلا إلى هذه الطبيعة التي يبصر جمالها كأنما هي منى النفس التي تنشدها.
وإن المرء لينظر إلى محاسن الطبيعة في الصيف كأنه نقل إلى عالم مسحور كان يحلم بمحاسنه، فالصيف هو شهوات السمع والبصر، بل هو شهوات النفس والحس تصغي الأذن فيه إلى شدو الطيور قبل أن تتغنى، وتتطلع العين إلى الزهر قبل أن تراه، وينشق الأنف نفحاته قبل أن يحملها النسيم إليه، تلك النفحات التي تكاد تصبغ النسيم بلون الزهر، وتكاد كل نفحة تكون زهرة تلمسها اليد، وكما أن السماء ترتسم على صفحة البحر، كذلك تريق السماء لونها على الزهر. فإذا كانت السماء مشمسة كان الزهر مثلها، وإذا كانت داجية كان داجيا، وإذا كانت مقمرة كان الزهر مقمرا.
تفلت النفس من رق مشاغل الحياة كي تلتذ الصيف، فهي كالعصفور الذي يفلت من يد الصبي الذي يعذبه فلا يفلت من الخيط الذي قيده به، فإذا طار وقع على قرب فلا يلتذ أنه طليق، ويخشى في كل طرفة أن يأسره معذبه، فآه لو كانت الحياة فرحة وعرسا أو حلما لذيذا من أحلام الصيف والسعادة، ولكن مشاغل الحياة لها في عنق النفس قيد من خيوطها مثل خيط الطفل في عنق الطائر.
ويخيل لك في الصيف أن عصافيره المغردة خارجة من صدرك، وأنها أشجانك وأماني نفسك، ويخيل لك أنك ترى في أنغام الطيور شيئا من السماء والماء والأزهار ونفحاتها، والرياح ونسماتها، والشمس وأشعتها، وكأن سمو الطيور موقظ في نفسك الرغبة في السمو، فتود النفس لو تسمو كالطيور حتى تسامر النجوم التي هي طيور السماء، ثم تتعداها إلى ما وراءها وتظل النفس تسمو إلى الأبد.
جنة الأدباء
كنت يوما أقرأ رسالة الغفران التي صنفها المعري، فجلبت لي النوم قراءتها، فرأيت في الحلم جنة مثل الجنة التي يصفها وفيها الأدباء والشعراء.
رأيت أديبا لا أعرفه يتلو على طلابه درسا في خيال الشاعر وسنن الطبيعة، فسمعته يقول: إن التماس معرفة سنن الطبيعة يكسب الشاعر دقة في التمييز، ويجلب له حسن الذوق في اختيار المعاني والتفريق بين الخيال السقيم والخيال الصحيح، وهو أيضا ينمي صحة المنطق في أشعاره ويكون باعثا لأن يخفض الشاعر من غلواء المغالاة بأن يعلمه جلالة البساطة، فإن مظاهر الطبيعة تفتح للشاعر بابا من الخيال يغنيه عن تطلب الأوهام التي تسلك في باب المغالاة والتماس معرفة سنن الطبيعة، ينمي عاطفة تقديس مظاهر الوجود، وذلك يفيض على القلب طهارة، ويجعل في الروح سعة لأن تفهم أسرار الحياة ومعانيها، وهو أيضا يزيد خيال الشاعر صحة، فيكون سموه مثل سمو النسر يعلو، ولكنه إذا رمى الأرض بلحاظه أصابها بها، فهو بعيد السمو بعيد النظر، فيجمع الشاعر الذي يلتمس عرفان سنن الطبيعة، بين سعة الخيال وصحة المعنى، ويكون خياله مكتسبا من صدق النظرة، لا مثل خيال معالج المغالاة، فإن خيال هذا مكتسب من كذب النظرة. أليست المغالاة نظرة كاذبة ولكنه لا يسلك في باب المغالاة المذمومة ما يقوله الشاعر عن لسان من بدهه خطب أو كرثه حزن، أو ما يقوله أيضا عن لسان عامي النفس، فإن هؤلاء يلجئون إلى المغالاة بحكم الطبيعة للتعبير عن عواطفهم وآرائهم.
ثم أبصرت أبا زيد السروجي يلقي درسا في المترادف، ويقول: كلما عظم التفكير بين الأدباء قل المترادف، والسبب في ذلك أن كل مترادف يأخذ معنى لم يكن له قبل؛ لأن ذلك من دواعي التدقيق في البحث وراء المتشابه والمتناكر من المعاني، وخير للمترادف أن يسد حاجة من حاجات التفكير بدل أن يعيش مقبورا في كتب اللغة، وسيكون للمترادف نفع جليل، فيجد ما كان غير محدود من المعاني، ويلبس المعاني الجديدة ثيابا جديدة، ويزيل ذلك الإبهام الذي يجعل المتناكر من المعاني متشابها والمتغاير متعارفا، ويعوق الأديب عن التفكير الصحيح.
ثم أبصرت صديقا من الأدباء المعروفين أعهد فيه الشذوذ يلقي على الطلاب درسا في فلسفة الشذوذ، فسمعته يقول: الشذوذ عنوان العبقرية ودليل على سعة في الروح، فإن ضيق الروح لا يرى الصواب إلا فيما تسنه العادات، ولكن واسع الروح يرى أن الصواب كثير المنازل، ويعرف من منازله ما لا يعرف قتيل العادات، والشذوذ أيضا دليل على شجاعة المرء، فإن الجبان يخشى أن يرتاد مظان الشذوذ جبنا، فلو أنه كان عزيز النفس لرأى أن في بعض الشذوذ خلاصا من الضعة وانتصارا لجلالة النفس والضمير الحر، فإذا رأيت أمة ذليلة كثر بينها أهل الشذوذ الذين يجرءون، ويقدمون الذين لا يبيعون جلالة النفس بالخفض والجاه، الذين ينصرون ضمائرهم بإعزاز أنفسهم، الذين يعرفون أن العادات مظاهر الحق والباطل، ولباس الصدق والكذب، الذين لا يخشون الداء والفقر والجوع والسب والاحتقار والخمول في نصرة الحق، إذا رأيت أمة ذليلة كثر بينها هؤلاء فاعلم أنها أمة عزيزة.
Неизвестная страница