ليضحك ربات الحداد البواكيا
ومن رحمة الله؛ أن المرء مهما كرثه الشقاء قادر على الضحك، فإذا تكلف الضحك خرج ضحكه سقيما فاتر الصوت مكذوبا، ولكنه إذا لج في هذا الضحك المكذوب الحزين انقلب ضحكا مجنونا غالبا لا سبب ولا حد له. هذا من رحمة الله بالناس.
نظر الشاعر إلى الطبيعة
في النعيم والشقاء
إذا كان لك من المقدار سلطانه الذي يصول به لم تقدر أن تمنع الشاعر من أن يفرغ ما يثور به صدره. أتحسب أن الغريد إذا ضمته أسلاك القفص كانت مانعة إياه الغناء العذب، أو أن الشقاء إذا حنيت عليه أضالع الأديب أسكته. إن البلبل إذا أطلق نغماته وهو آخذ بأطراف النعيم بين الأشجار والأنهار كساها الجلال جلبابه، ونشرت حولها الطلاقة هالتها. أما إذا جاد بها وهو في سجنه كانت كأنها لابسة حدادا، أو كأنها صوت المريض المودع عواده، فتثير عواطف الرحمة والخشوع، ويكون جمالها في هذه الحال مثل جمال السحب التي طرزت أطرافها أشعة الشمس الذهبية، فكأنها البرد الأسود المزركش، الذي يجمع بين اللون العابس واللون الضاحك.
قد ضمن المتنبي في نفسه من المرارة وسوء الظن بالناس ما يضمره كل من قصر عن إدراك آماله وأطماعه، ولكن تلك المرارة لم تكن داعية إلى إضعاف لذة التغريد، فإن من قيد البحث بنفوس الشعراء علم أن المرارة لا تمحو تلك اللذة، وإنما تكسبها ألما لذيذا، ولو أننا أردنا أن نصف جمال شعر الأديب البائس لما وصفناه بأبلغ من قولنا: الجمال الحزين أو البهاء العابس، فإنك إذا رأيت حسناء بلغ منها المرض مبلغا عرفت أن ماء الحسن جائل في أنحائها، ولكن الألم يكسبها رقة ولطفا غير رقتها ولطفها. كذلك نغمات الشاعر الذي تملكه الشقاء.
أليس عجيبا أن ذلك الشاعر الأبي ذا الأماني الضخمة الذي يقول:
وكل ما قد خلق
الله وما لم يخلق
محتقر في همتي
Неизвестная страница