أمام هذا الفراغ ماذا سيصنع؟ لن يصنع شيئا أصلا، هو يسلم بإخفاقه، يسلم بحاله كما هو وكما كشفه له التحليل، وما العمل حيث قد امتنع العمل؟ اللهم إلا أن يعدل المرء عن الأمل المستحيل وأن يسلم بالواقع؟ أما أن يعود القهقرى، وأن يثور في نوبة من اليأس، وأن يحاول رتق حجاب الوهم الذي مزقه، فقد كان مونتاني أخلص طوية وأقوى نفسا وأذكى عقلا من أن يصنع ذلك، ليس كتابه «رسالة في اليأس»، وإنما هو «رسالة في الزهد».
على أن الشك لا يصلح موقفا للحياة، وهو إن طال أضحى موقفا لا يطاق، إن «وسادة الشك اللينة» صلبة جدا، وليس يستطيع الإنسان أن يعدل نهائيا عن اليقين، عن «طمأنينة الحكم» كما يقول ديكارت، إنه بحاجة لليقين لكي يحيا، كي يدبر سيرته في الحياة؛ لذلك بدت حركة مقاومة منذ نهاية القرن السادس عشر على أيدي شارون وبيكون وديكارت: الأول يمثل الإيمان، والثاني التجربة، والثالث العقل.
الحق أن ليس لدى شارون ما يعارض به مونتاني اللهم إلا أن الحالة التي كشفها لا تحتمل، وأنها تؤدي بنا إلى اليأس، إذا كان العقل عاجزا عن تخليصنا فبئس مصيره، بل نعم المصير إذ يبقى لنا الإيمان.
أجل إن نقد مونتاني قد هدم أسس اللاهوت المدرسي، والأساليب المعروفة في الدفاع عن الدين، والأدلة المألوفة على الحقيقة الدينية، ولكن شارون يعترض فيقول: إن النقد الشكي يهدم نفسه؛ ذلك أنه إذا كانت الأدلة المؤيدة غير صالحة فإن الأدلة المعارضة غير صالحة كذلك، فهو أمام شك العقل الطبيعي يقيم يقين الإيمان الفائق الطبيعة.
لم يلق موقف شارون هذا، المؤلف من إيمان بالوحي وشك في العقل، نجاحا يذكر، وهذا أمر مفهوم، فإن «العاطفة الدينية» كانت شيئا مجهولا إلى حد ما في عصره، ولم يكن الإله في ذلك العصر موضوع شعور باطن، لم يكن بسكال قد وضعه بعد على هذا النحو، ولكنه كان إلها معقولا، وسيقول ديكارت في «رسالته إلى أساتذة السوربون»:
ولو أنه من المحقق أنه يجب الإيمان بالله؛ لأن الكتب المقدسة تعلم ذلك، وأنه من جهة أخرى يجب الإيمان بالكتب المقدسة؛ لأنها صادرة عن الله، فليس يمكن عرض ذلك على غير المؤمنين (على الشكاك، والزنادقة)؛ إذ قد يتصورون أن في هذا القول الغلط الذي يسميه المناطقة بالدور.
لذلك لم تقف «حكمة» شارون حركة الشك، بل بالعكس صارت أصلا له.
كان شارون رجل دين، وكان بيكون رجل دولة وجه عنايته لا إلى اليقين الديني ومصير الإنسان في العالم الآخر، بل إلى «تقدم» العلوم والمخترعات النافعة، وإلى مصير الإنسان في هذه الحياة الدنيا، لم يكن يتوق إلى السعادة الأبدية، بل إلى رغد الحياة؛ لذلك لم يلتمس دواء شرور الحاضر في الماضي، بل في المستقبل.
هو يسلم بنقد الشاك، ولم يوفق أحد مثله في تصنيف الأخطاء الإنسانية والكشف عن أصلها في الطبيعة والمجتمع جميعا، ولم يكن أحد أقل ثقة منه في قوة العقل الذاتية.
أجل إن العقل - العقل النظري - مريض عاجز مشحون بالأوهام والأخطاء، وبيكون يذعن لذلك، إن ما يهمه، إن ما يهم الإنسان في رأيه، ليس النظر والتأمل بل العمل؛ لأن الإنسان فاعل قبل أن يكون مفكرا؛ لذلك إنما توجد الأسس الوطيدة للعلم - بالإضافة إلى الإنسان - في العمل والتجربة. العقل النظري هو «مجنون الدار»، يضل حالما يترك التجربة؛ لذلك كان الواجب منعه من الاسترسال في الضلال، وتثقيله بقواعد عديدة محكمة، والهبوط به قسرا إلى أرض التجربة الثابتة.
Неизвестная страница