فإن من الخطأ اعتبار ديكارت مجرد تلميذ للقديس أوغسطينوس والناطق بلسان بيريل.
والواقع أن لعبارة القديس أوغسطينوس التي ذكرتها لكم: «أتوق إلى معرفة الله والنفس» بقية هي هذه «ولا شيء خلا ذلك، لا شيء مطلقا»، ولكتاب ديكارت إلى مرسين الذي قرأت لكم بدايته بقية هي هذه: «وأقول لك إني لم أكن لأجد أسس العلم الطبيعي لو لم أبحث عنها بهذا الطريق.» أي بمعرفة الله والنفس.
يكفي القديس أوغسطينوس أن يعرف الله ونفسه، ولكن لا يكفي ديكارت أصلا؛ هو بحاجة إلى علم طبيعي، وهو إنما ينشئ ميتافيزيقا ويتجه نحو الله ليستطيع أن ينشئ علما طبيعيا.
وهذا يعود بنا إلى ما ذكرته لكم من حاجة ديكارت الأخرى، حاجة اليقين العلمي، حاجة تسويغ أسس العلم الجديد تسويغا ميتافيزيقيا، وقد يبدو هذا غريبا لأول وهلة.
أليس العلم، العلم الحديث على الأقل، معارضا للميتافيزيقا؟ أليس هو معتزا بسلطانه، أوليس ديكارت أحد مبدعيه؟ وديكارت يعلمنا عكس ذلك تماما، إنه يقول لنا: إن العلم بحاجة إلى ميتافيزيقا، بل يقول لنا ما هو أخطر من ذلك، يقول: إن العلم يجب أن يبدأ بالميتافيزيقا.
إن هذا أخطر؛ لأن ديكارت يقلب به «نظام العلوم» وكان قد أعلن أنه لا يريد أن يمسه، ولم يكن أحد قد نهج هذا المنهج منذ عهد أرسطو، بل كان الكل يبدأ بالعلم الطبيعي ليتأدى منه إلى ما بعد الطبيعة، إلى الميتافيزيقا.
ما هو السبب في هذه الثورة الديكارتية الجديدة؟ أهي الرغبة في التجديد؟ أم ديكارت يرى من الضروري أن يسير على نظام الأسباب دون نظام المواد، وأن يعلم أن «العلوم جميعا تستمد مبادئها من الفلسفة»؟ هذا هو السبب من غير شك؛ فإن ديكارت، أو الفكر عند ديكارت، والأمر واحد، يجب أن يكون تركيبيا لا تحليليا. الفكر الديكارتي يذهب من الأفكار إلى الأشياء، لا من الأشياء إلى الأفكار، ويذهب من البسيط إلى المركب، ويتقدم من وحدة المبادئ إلى كثرة الأنواع، فيتقدم من المجرد إلى المشخص، ويسير من النظر إلى العمل، لا كفكر أرسطو والمدرسيين الذي يذهب من عالم متنوع واقعي ليرتقي منه إلى وحدة المبادئ والعلل التي هي أساسه، فإن الواقع عند الفكر الديكارتي هو الموضوع البسيط للحدس العقلي لا موضوعات الإحساس المركبة.
ولكن هناك فوق ذلك سببا أدق يلوح لي أنه لم يفقد كل قيمة، ذلك أن ديكارت إنما قام بثورته العلمية فنفى من الوجود الكيفيات والصور والنفوس النباتية والقوى الحيوية، وأثبت السيطرة الكلية للآلية في العالم الطبيعي بأن استبعد من العلم كما تذكرون كل فكرة غير «واضحة»، ومعنى هذا عنده كل فكرة «مجردة» من المحسوس، كل فكرة تحمل أثر المحسوس، ما من شيء واضح؛ أي ما من شيء يمكن عرضه بتمامه على العقل، إلا ما يتصوره العقل دون مشاركة المخيلة والحس أصلا، وهذا يعني عمليا: ما من شيء واضح إلا ما هو رياضي، أو على الأقل ما يمكن وضعه وضعا رياضيا.
1
ولكن أي حق لنا في الخروج من الفكرة إلى الشيء كما يتطلب المنطق الديكارتي؟ هل وضوح الفكرة يخولنا هذا الحق؟ قد لا يكون للوضوح إلا قيمة ذاتية، وقد لا تكون للفكرة الواضحة، الواضحة بالإضافة إلينا، إلا علاقة بعيدة جدا بالوجود كما هو في ذاته، بل قد لا تكون لها به علاقة أصلا، وخاصة إذا كان العقل يجدها في نفسه كما يؤكد لنا ديكارت، فإن وضوح الفكرة شيء ووجود موضوعها شيء آخر، قد نستطيع أن نتصور أفكارا وأفكارا واضحة عن أشياء هي مع ذلك غير موجودة بل ممتنعة الوجود، فمثلا - بصرف النظر عن موضوعات الهندسة كالمثلثات والدوائر والخطوط - أليس لدينا فكرة واضحة جدا عن الحركة في خط مستقيم؟ فهل يلزم من ذلك وجود مثل هذه الحركة في العالم الواقعي؟
Неизвестная страница