من غير شك إن إصلاح المنطق والعلم الطبيعي والميتافيزيقا أو بالأحرى خلق هذه العلوم خلقا جديدا - أي خلق عالم بأكمله - يكفي هذا الرجل المتواضع.
لنقف هنا لحظة فقد بلغنا الوقت الحاسم، بلغنا بداية الفلسفة، في رأي ديكارت على الأقل، ومن هنا يبدأ كتابه «التأملات». إن الإنسان بحاجة - والإنسانية أيضا من غير شك - لأن ينزع عنه مرة في حياته كل ما سبق له من آراء، وأن يهدم كل ما سبق له من معتقدات ليعرضها كلها على حكم العقل.
أليس التخلص من جميع الآراء وهدم جميع المعتقدات هو أيضا التحرر منها؟ أوليس عرضها على حكم العقل يتضمن القول بسلطان العقل وحريته؟
وهذا هو المنهج الديكارتي وهذا هو الدواء الديكارتي، المنهج يعني الطريق المؤدي إلى الحقيقة، والدواء هو الذي يشفينا من التردد والشك.
إذا أردنا أن نستعيد ما كان لعقلنا من نقاء فطري وأن نبلغ إلى يقين الحقيقة فيجب التخلص من جميع الأفكار والمعتقدات؛ أي التحرر من جميع التقاليد والسلطات، فإن الشاك - وأقصد مونتاني - على حق في أن يشك، أليس هو بإزاء آراء مريبة بل خاطئة؟ قد يكون على غير حق أحيانا، ولعل هناك إلى جانب الأفكار الكاذبة أفكارا صادقة، ولكن ما السبيل إلى العلم بذلك؟ يجب أن نتمكن من الحكم عليها جميعا؛ أي التمييز بين الصدق والكذب وكيف نستطيع ذلك ونحن آمنون من الخطأ ما دمنا نحتفظ برأي واحد بغير امتحان، وقد يكون كاذبا فيفسد علينا الحكم؟
لا سبيل إذا إلا أن نفرغ العقل بالمرة، وسيقول ديكارت في رسالة للأب ميلان: «إذا كان لدينا سفط من التفاح بعضه فاسد مفسد للبعض الآخر، فكيف العمل إلا أن تفرغه بأكمله وتتناول التفاح واحدة واحدة فتعيد الجيد منه إلى السفط وتطرح الرديء؟»
ولنلاحظ أن هذا العمل يتم على دورين: نبدأ بإفراغ السفط، ولكنا لا ندعه فارغا؛ لأنا سنعيد إليه التفاح غير الفاسد، فكيف وبم نمتحن الآراء لاستبقائها أو اطراحها حسبما توافق العقل أو لا توافق؟ بالعقل نفسه، بذلك الضوء الطبيعي الذي إن خلصناه من جميع الآراء التي تملؤه استعاد كماله الطبيعي وصار من ثمة قادرا على التمييز بين الصواب والخطأ.
وكيف صنع ذلك؟ هنا أيضا الأمر بسيط غاية البساطة، نشك في الأفكار التي نستطيع أن نتبين فيها غموضا واختلاطا، إن الأفكار التي نستطيع الشك فيها تحتوي بكل تأكيد شيئا غامضا مختلطا؛ لذلك نحن نمتحنها بالشك، والشك هو محكنا، كل فكرة تتأثر بهذا الحامض المحلل فهي كاذبة، أو على الأقل فهي من طبيعة أدنى، هي تفاحة فاسدة، وإذا فنحن نطرحها ولا نستبقي إلا التي «تعرض للفكر بوضوح وجلاء لا يستطيع معهما الشك فيها.»
الشك محك الحقيقة، هو الحامض الذي يحلل الأخطاء؛ لذلك يجب أن نجعله أقوى ما يمكن، وأن نشك في كل شيء ما استطعنا إلى الشك سبيلا، حينئذ فقط نكون على يقين أنا لا نستبقي إلا ذهب الحقيقة الخالص.
وسيغلب الشك بنفس أسلحته، إنه يشك، ونحن سنعلمه الشك، لن يكون شكنا «حالة» حالة ريب متكاسل، بل سيكون فعلا، فعلا إراديا، وسنمضي به إلى نهايته، وشتان بين حالة الشك وفعل الشك، لقد فزنا بالنصر مبدئيا؛ إذ إن الشاك يذعن للشك، أما ديكارت فيزاوله، وهو إذ يزاوله بحرية يسيطر عليه ومن ثمة يتحرر منه، إنه حاصل على محك وقاعدة لم تكونا لمونتاني، وإذا فيستطيع التمييز بين الصواب والخطأ ووضع الأفكار التي ستكون عالم العقل في مواضعها ومزاولة «النقد»؛ أي الحكم والاختيار.
Неизвестная страница