ولقد لاحظت أنه في صعيد مصر، يكفي أن تنظر إلى أشد الأشياء غموضا، وأنت محب لها لتسارع إلى نفسك محدثة بأسرارها.
بأعلى أروقة «دندرة»، حيث المنظر غير محدود، وهو قيد للبصر، وحيال الثنية الرهيبة في «جبل أبيدوس»، كعبة الحجاج الراسب فيه الزورق المقدس وبذروة «هيكل هوروس» بإدفو التي تدهش البصر، غير متفاوت ذلك الشعور الذي يهجم على النفس من جميع أقطارها.
ومن حيث خرجت لدى أي موطن تخشع النفس فيه لجلال العقائد وتكاليفها، وتضطرب القلوب من هلع أمام غيب العالم العلوي الذي لا منفذ إليه، سرعان ما يجد النظر راحة وسلوانا في البقاع المطيفة بمرآها العجيب، الذي كأنما جعلته الطبيعة لطفة للعيون.
من أجل ذلك كنت في منحدري من زيارات عفو الساعة لبعض جوانب مدينة طيبة، كثيرا ما أحب الخلوة بنفسي؛ لألهو بأفكار أقل تغلغلا في عالم التجريد، فأرتقي مصعدة في قلب «الأصاصيف» إلى جوف الكهف ذي الأسرار، السابق على عهود التاريخ، المنحوت في نازح من مسارب السيل.
وثمت في ذلك الوكر البديع المكون من أحجار على سجيتها، كنت أستريح منصتة إلى النسور المارة إذ تزف زفيفا.
في وسط الكهف يقوم مذبح من محاريب العبادة، طريف في نوعه، ومع أنه محفوف بالصمت منذ آلاف السنين، فهو يقص علينا العجب العاجب من تاريخ الإنسان في نشأته الأولى، حين نزع بالهام من فطرته إلى عبادة النور بارئ كل شيء. وعند ذلك النصب الذي أقامه الأوائل من البشر مصلى، والذي تكتنفه أقفاف بهيجة، تصبغ الشمس في عنفوانها ذهبا، فهمت بما شهدت من السحر العظيم سر عبادة المصريين القدماء «لآمون-را».
وفي أثناء الساعات التي كنت أقضيها في هدأة الوحدة بأعماق وادي النسر، طالما تمثلت لخاطري وجوه أدركها الزوال، مرت سراعا في هذه الحياة الدنيا، فكانت سيرها فصولا مبدعة في سجل تاريخ الشرق الخطير الشأن.
وإليك ما ورد على النفس من الذكرى لحياة ملكة عظيمة من ملكات الأعصر الماضية، هي «أهمس-نوفريتاري»، التي رفعت لنفسها في حياتها ذكرا، ومكنت لها في مصر سلطانا كبيرا، وبعد مماتها عز على رعيتها أن تنقطع بينهم وبينها كل أسباب الاتصال فجعلوها من الآلهة. وكذلك صار للملكة «أهمس» شعائر دينية معترف بها رسميا، كشعائر آلهة طيبة الثلاثة، وأصبحت مثل «آمون» و«مت» و«كونسو»، لها فلك مقدس، ولها ما للأرباب من مظاهر التمجيد.
وبودي أن أتعرض في هذه الصفحات لسرد ما كان من أمر ملكها في الأرض، مشيرة إلى شأنها في السماء:
إن أكمة دير المدينة الآخذة إلى وادي النسر هي أقدس مكان في القرافة، وهي معدة لعبادة الملكة «أهمس-نوفريتاري» المعتبرة من آلهة طيبة.
Неизвестная страница