يا من همو مفزعنا في ساعات الهموم إذا استحكمت حلقاتها، وملجأنا في ساعات الفرح القوي الذي ينوء به ضعفنا، أيتها الآلهة الكبرى المحبوبة حب عبادة، أجيبي تضرعنا إليك، كما أجبت دعاء المكروبين مثلنا من قبل.
لا بد أن يكون «رمسيس الثالث» و«أمينتريس» وسائر من شادوا معابد ها هنا، جاءوا في ليال كهذه الليلة متلظية وضاءة؛ ليوجهوا قلوبهم إلى الذي اصطفاهم، وينبغي أن يكون في هذا المكان سبب فوق العصور والأجناس والأديان من عنصر لا يقبل الفناء.
من أجل ذلك شعرت بسر أخاذ غير مدفوع، لا أدري ما هو، يخلص من طنف المعبد وباحاته، من كل ناحية كانت موضعا لتأثير ديني، أو فيض إلهي، أو وحدة عقيدة في جيل من الأجيال.
كنت أفكر في ما ينبعث من الجدران والعمد من سلطان على النفوس غيبي، بينما أسير الهوينى في السكون الشامل؛ لألحق بالحجيج الذين ذهبوا ينتظرونني في ساحة «أوزيريس»، وعلى حين فجأة ثبت في مكاني بين دهشة وعجب، إذ لمحت امرأة تدنو إلى ناحيتي في تريث وجلال، قادمة من مدخل الهيكل، كأنما تنساب انسيابا لا تمشي على قدم، يلوح جسمها كله رقيق المستشف، ولم تكن قامتها مفرطة الطول. على أنها كانت كلما تدانت بدت للرائي مهيبة متعالية في شكل رأسها تلك المخايل الصادقة الدالة على أنها مخلوقة للسيادة، وتزين غرتها تلك العزيمة الماضية التي لا تزين بها الغرر إلا سلسلة طويلة من آباء ملوك، والتي يجعلها تمادي الزمن خاصة السؤدد والحسب.
كانت ترتدي بجلباب أبيض، ليس فيه عن شيء من جسمها فضل، رقيق النسج، مطرز الحواشي، ينحسر عن عنقها ومعاصمها المحلاة بأساور من ذهب، وكانت في قدميها نعال ثمينة، تهب مشيتها تلك الرشاقة النبيلة التي لا تحاكي رشاقة النساء المصريات.
هي الآن تمر أمامي فأفزع من روعة إلى الوراء؛ إذ عرفت من ذلك الكائن ذي المظهر الخيالي، الملامح اللطيفة والخصائص الشريفة والأعين النجل الشبيه سوادها بسواد الليالي المصرية، عرفت محيا الملكة الفتان المصور فوق الجدران في «الكرنك» في معبد «أوزيريس». تلك هي «أمينتريس» صاحبة الإمارة الدينية في طيبة، مليكة المصرين، وسادنة «آمون»، بيدها المعزف الغالي المصور فيه رأس «هاتور»، وقد كلل هامتها زهر اللوتس، وسطع عرف البخور الطيب من نواحيها، تمر أمام عيني السادرتين قاصدة إلى المحراب، طيفا للماضي ومظهرا للخلود مجيدا.
ما الذي جاء بها إلى هذا المكان في هذه الساعة؟
لعلها جاءت تقيم شعيرة من شعائر الدين، أو تخلو للفكر والاعتبار، موحدة لا يصل جناحها بعض الأميرات، ولا بعض وصائف القصر.
ومع تجردها عن بطانتها المصرية، وموكبها الحبشي، كانت كأنما تحف بها المحافل ومظاهر التفخيم، بما كانت تبدو مونقة رائعة في الباحة البيضاء لمعبد «رمسيس الثالث».
كانت تلك الملكة النضيرة تحل من ذلك المكان المقدس الذي كانت سادنته بمعهد أليف، وكانت مكللة بكل أكاليل المجد الغابر، حتى لشعرت بلذعة الحزن بما وجدتني مغمورة إلى جانبها، لا يجمعنا شبه ولا تسوي بيننا مرتبة، على أنني مصرية من جيل غير ذلك الجيل، جئت أملأ بصري، وأنعش قلبي بمرأى دمن العظمة السالفة. «أمينتريس» حيالي في ذلك الليل القمري، تتصل بعالم الماضي شيئا فشيئا، وتمتزج بالوجودات المغيبة أيضا، في حين امتزاجها بكل ما يحيط بها، فأراها تتمثل فيها مصر كلها كما أحبها.
Неизвестная страница