123

قال آدم: أول ما أفعله هو البحث عن قبر حافظ، ولدي إحساس عميق في ذاتي بأني سأجده. - ولكن قد يثير هذا الموضوع غضب السلطات. قال: انشغال السلطات في هذه الأيام بغضب الله وغضب الناس ووجود المنظمات التطوعية التي تعمل في مجال حقوق الإنسان، أضف لذلك إحساس السلطات بأنها كلما وسعت في رقعة المشاركة كلما استطاعت أن تتخطى محنتها، كل هذا قد يتيح لنا فرصة عمل قلما تتوافر في ظرف آخر.

قلت له: هنالك سؤال يحيرني الآن: من الذي يقود الشارع؟ قال مبتسما: الشارع يقود نفسه. فالجوع والظلم والمرض والتساقط والفساد السياسي، المحسوبية ... إلى آخره، هي المولد الحقيقي لهذه الثورة الشعبية، أما القيادات العالمية والنقابية والسياسية فهي كما تعلمين إما مشردة، إما خارج الوطن، إما مدفونة تحت ترابه، أو مقيدة في السجون ... ومنهم من باع، ومنهم من خاف فصمت.

قال المختار: على كل باستطاعتي أن أقدم لك بعض العون في البحث عن قبر حافظ يس ، فهنالك من بإمكانه تزويدك بمعلومات جيدة، فهو قد لا يعرف أين دفن حافظ، ولكنه أيضا قد يفيدك. - هذا ما كنت أبحث عنه وجئتك بشأنه، وأظن من تتحدث عنه هو طبيب السجن الكبير، وهو نفسه الذي أخبرتني عنه سارة، وهو زميل لك في الماضي بمستشفى الأمراض النفسية والعصبية بالمدينة، وهو رجل يقال عنه إنه «نظيف». قال المختار: بالضبط ... ولكنه كثير المخاوف، فهو رئيس قسم الأعصاب بالمستشفى وطبيب السجن الكبير، ولديه سبعة أطفال وأسرة فقيرة. قال آدم مبتسما: لقد فهمت! لا بد أنه يريد أن يبقى في وظيفته. قال المختار وهو يكح: سأكتب لك مذكرة، كما أن القديسة تعرفه، وأنه قد لمح لها من قبل بأن حافظ لم يهرب ولم يكن بالسجن ... وليس خارج «البلاد الكبيرة»، وقد تصحبكم القديسة إليه. - ولكنه قد لا يتعامل معنا؟ - ربما ... فقط يقدم لكم ما يستطيع، أولا لأن الظروف السياسية في البلاد تذهب نحو زمن جديد لا محالة آت، والرجل يفهم ذلك جيدا ولديه الرغبة في الاحتفاظ بكرسي وظيفته أطول زمن ممكن. - إذن هو من ذلك النوع؟ - ليس من ذلك النوع تماما، ولكنه من ذلك النوع.

اسمه حافظ يس راشد، من شمال البلاد الكبيرة، ولد في القرية، وهي تقع على شاطئ النيل من جهة الغرب، صغيرة يظللها النخيل والحراز. تعرفت عليه في باص العاشرة الذاهب إلى المرسم المكشوف، أو كهوف مايازوكوف، مثله مثل آدم، مثل سارة حسن، مثل مايا ... مثل أمين محمد أحمد، مثل نوار سعد، مثل الآخرين؛ كان عاديا بسيطا ومتواضعا كعشبة فصلية، وكان بارعا في نحت الجرانيت، وله يد طولى في حفر أكبر الكهوف المايازوكوفية في سفح الجبل المرسم المفتوح، وهو الذي نحت على صخرة صماء داخل الكهف الكبير مطرقة ومحراثا وثلاثة عمال أقوياء ذوي عضلات مفتولة ووجوه بريئة كأوجه الأطفال، إلا أن ما بها من إصرار وقوة إرادة لا يمكن أن تخطئه عين، وبالنحت أيضا امرأة تحمل طورية بيد، وبالأخرى تحمل مصحفا، وقد سمى مايازوكوف هذا الرسم آية الخبز وأسماه حافظ الثائرين، وكان نحتا ذا قيمة فنية عالية وشديد الإتقان، ولو أن نوار سعد علقت ذات مرة عليه قائلة: إنها منحوتات أيديولوجية رخيصة، ولو أنها متقنة بأسلوب كلاسيكي بارع يذكرني بمايكل أو روفائيلو ... تماما لو أننا عبأنا السم في قوالب من الذهب. أذكر أنه رد عليها قائلا: إن الأيديولوجيا نفسها هي التي أنهكت ملاحظاتك النقدية، أيديولوجيا اليمين المتخشب، فكر السوق.

فابتسمت نوار سعد ابتسامة ساحرة، برقت خلفها أسنانها البيضاء المنتظمة وهي تقول: أنا لا أومن بالأيديولوجيا. أية أيديولوجيا. لقد مات عصر الأفكار العظيمة والمرقعة في الحلم، وانتهى عصر الأفكار والمفكرين العظماء، وانتهى عصر الثورات والثوار والأناشيد والملاحم؛ نحن نحيا في عصر الرفاهية والفكر اليومي المريح، المريح جدا.

قال مبتسما في إشفاق: وهذا عين الأيديولوجيا، وهو فكر مؤسس له مفكروه الذين إلى الأمس كانوا يصرخون بأن التاريخ قد انتهى، وتوقفت عجلة الزمان بجراج البيت الأبيض.

ما زلت أذكر ذلك بالتفصيل: كان حافظ يس نحاتا بارعا وشابا مفكرا مثقفا وحزبيا، عكسي تماما، وإلى حد ما عكس نوار سعد، وأيضا مايازوكوف ... وكان المختار يختلف معه اختلافا كثيرا إلا أنه كان يحبه ويحترمه قائلا: الاختلاف خطوة نحو الاتفاق. وكان أسلوبه في التعبير عن أهدافه أسلوبا مباشرا حادا، فهو يحرض على التظاهرات بالجامعة، بالجامع، بالسوق، وأينما وجد ووجد الناس. ويشارك في إصدار الأعداد السرية من الجرائد الحزبية المحرمة بالقانون، ويتحدث وقتما وأينما وجد منبرا عن الفقر والجهل والأمية وعن الحاكم، وهو يكتب المناشير ويوزعها في المدينة والمدن المجاورة والقرى، وهو الفاضح الخفي لكل خبائث الوزراء وفضائحهم وأسرارهم، ومثله سارة ومثله ... لذا كانوا هدفا لمطرقة السلطة؛ فسجن حافظ مرارا، وعذب وانتزعت أظفاره، ثم أخيرا ارتاح منه الجلادون وارتاح هو أيضا منهم.

قالت سارة ونحن نركب الباص العام متوجهين إلى المدينة: لا أدري، هل أطلقوا عليه الرصاص أم أنه مات تحت التعذيب.

قال السجان

وعندما مر الباص أمام مبنى السجن الكبير ...

Неизвестная страница