بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وتمم بالخير الحمد لله المنعم الذي له نعم أبت أوضاحها إلا امتدادًا، وأمدادها إلا ازديادًا، يفوح عرف عرفانه في آفاق القلوب، ويمحو غفرانه من دفاتر الأعمال رقوم الذنوب، اللطيف الذي له ألطاف لا يدرك كنهها رائد الفكر، ولا يتسع لها نطاق التعداد والحصر، الوهاب الذي له مواهب لا مطمع للحمد في جزائها، ولا قيام للشكر بازائها. والصلاة على محمد الذي أزاهير رياض نبوته مونقة، ومجاري أنهار شريعته مغدقة، (من) نشأت من آفاق رسالته سحابة عيمها نعمة سابغة وغيثها حكمة بالغة. ثم السلام على أصحابه وخلفائه الراشدين من بعده، فإن كل خير وبركة ونجاة عندهم وعندنا من عنده. قال الشيخ الإمام ظهير الدين أبو الحسن بن الإمام أبي القاسم البيهقي: كنت أبسم في تصانيفي عن ثغر الإفادة وأشيم بوارقها. وأتأمل التصانيف المتقدمة وأتبعها لواحقها، وأظن أنه تتهلل لي وجوه من الذكر الجميل، وجدتها في مدة حياتي عابسة، وتورق لي غصون من لسان صدق في العالمين بعدما صادفتها يابسة. وعسى الأيام أن يرجعن قومًا، وأن ترجع إلي الحبيب يومًا، ويساعدنا زمان ألذ من خلسات العيون وأحلى من فترات الجفون، وليت شعري هل عشيات الحمى برواجع، أم نجوم المنى بطوالع، والله ولي التوفيق، ومعين أهل التحقيق. وهاءنذا ناسج في تصنيفي هذا على منوال مصنف كتاب صوان الحكمة، وهو أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجزي، مشيد بمالهم من حرمة، وذاكر من تواريخ الحكماء وفوائدهم ما قرب غروب نجومه في مغارب النسيان، وأدرجه الدهر تحت طي الحدثان والله المستعان. وكل من ذكره وأثبت اسمه مصنف كتاب صوان الحكمة، فأنا ما سقيت شماريخه، وما ذكرت فوائده وتواريخه، فإنه أنصف في ذكرهم، وبالغ في حقهم، ونشر أردية جلهم ودقهم. حنين بن اسحق المترجم كان أول من فسر اللغة اليونانية، ونقلها إلى السريانية والعربية، ولم توجد هذه الأزمنة بعد الإسكندر أعلم منه باللغة العربية واليونانية. وكان حنين في عهد المأمون والمعتصم، وكان بغدادي المولد، وقد نشأ بالشام وتعلم بها. وكان يدخل بيعة النصارى، ويتعبد على قوانين شريعة عيسى ﵇، فرأى يومًا في بيعة صورة عيسى فتفل فيها، وقال: هذه بدعة لا يجوزها الشرع والعقل، وكيف يجوز نصب الصور في مواضع يعبد فيها الله تعالى، الذي هو منزه عن الصورة والهيئة، فحبسه الجاثليق مدة في داره. فصنف في مدة حبسه المسائل المنسوبة إليه في الطب، وفسر كتب أرسطو وأفلاطون. ثم اعتذر الجاثليق فما قبل عذره، وما عاد إلى البيعة واشتغل بنشر العلوم. قال حنين: من ترك إلا كل من السكر، والتمتع في الحمام، وإدخال الطعام على الطعام فقد استغنى عن الطبيب. وقال: لا تتعجب من موت الحيوان فإن طعامه وشرابه سبب هلاكه (وقال: كل زمان يلائم علمًا وعادة وصنفًا من الإنسان) وقال: من شرب على الريق، وجامع على الجوع، فقد جر الموت إلى نفسه بحبل. وقال: من وضع علمًا وصناعة كان كمن بنى دارًا، ومن شرح وفسر ذلك الأصل كان كمن طين سطحها وجصصها، وليس من جصص دارًا وكنسها كمن بناها. وقال: ما خاف شقاوة الدنيا، من اكتسب سعادة العقبى. اسحق بن حنين بن اسحق كان من ندماء المكتفي بالله، وقد دعاه يومًا ليختار طالعًا حتى يجعل فيه ابنه ولي العهد، ومعه الوزير العباس بن الحسن فقال لهما: بايعا أولًا، فبايعا ولده الطفل، فقال له اسحق بن حنين: يا أمير المؤمنين، قد بايعنا ولدك الطفل، ولكن الطفل ناقص لا يتم أمره ولا يصلح للخلافة وأشار إلى الوزير العباس بن الحسن وقال: تأملت طالع المكتفي بالله فوجدت صاحب عاشره في ثالث طالعه، فعلمت أن الأمر بعده لأخيه وكان الأمر كما قال، وجلس بعده أخوه المقتدر بالله. ولإسحق تصانيف كثيرة، وكان الغالب عليه علم الأحكام والطب ومن كلماته أنه قال يومًا للوزير العباس بن الحسن: أيها الوزير إن من تصدى لحفظ مصالح الناس ذكرته الألسن بالمدح والذم، فاجتهد أن تكون ممدوحًا في ذاتك " لا بحسب " أغراض الناس. وقال للمكتفي، وقد قرب أجله: يا أمير المؤمنين، قرب منك ما كنت بعده عن نفسك، فلا تلتفت إلى ما بعد عنك، ولا يعود إليك، واشتغل بما قرب منك ولا يفارقك.

1 / 1

واسحق بن حنين كان من جلة المسلمين، وقد حسن إسلامه، وأشركه المكتفي في بيعة ابنه مع وزيره العباس بن الحسن. حبيش الطبيب وحبيش كان من الأطباء المتقدمين والمهندسين. وله تصانيف كثيرة في الطب، وكان مصيبًا في المعالجات. ومما حكي عنه قوله: الكذب رأس كل بلية من ترك الحقد أدرك معالي الأمور قد يكون القريب بعيدًا بعداوته، والبعيد قريبًا بمودته من كرمت نفسه، لم يكن إلا بالحكمة أنسه. العافية نظام كل مأمول. ثابت بن قرة الحراني كان حكيمًا كاملًا في أجزاء علوم الحكمة. وقيل إنه كان من الصابئين وهو جد محمد بن جابر بن سنان صاحب الرصد. وكان المعتضد بكرمه، ومن إكرامه له أن المعتضد طاف معه في بستان له. ويده على يد ثابت (فانتزع بغتة يده من يد ثابت ففزع من ذلك فقال له المعتضد: يا ثابت، أخطأت حين وضعت يدي على يدك وسهوت، فإن العلم يعلو ولا يعلى فهذه غاية إكرامه في بابه. ومما نقل عنه: ليس شيء أضر بالشيخ من أن يكون له طباخ حاذق وامرأة حسناء. لأنه يستكثر من الطعام فيسقم، ومن النكاح فيهرم. وقال لما ارتبطه بجكم الما كاني حاجتي إلى الأمير أن يعينني على حفظ صحته بشيئين وهما ترك الأكل على السكر، والتمتع في الحمام. وكتاب الذخيرة من تصنيفه كتاب نادر في الطب. محمد بن زكريا الرازي المتطبب كان محمد بن زكريا الرازي في بدء أمره صائغًا، ثم اشتغل بعلم الإكسير، فرمدت عيناه بسبب أبخرة العقاقير المستعملة في الإكسير، فذهب إلى طبيب ليعالجه، فقال له الطبيب: لا أعالجك حتى آخذ منك خمسمائة دينار. فدفع ابن زكريا الدنانير إلى الطبيب وقال: هذا هو الكيمياء لا ما اشتغلت به. فترك صناعة إلا كسير واشتغل بعلم الطب، حتى نسخت تصانيفه تصانيف من قبله من الأطباء المتقدمين. وقال أبو علي بن سينا في حقه: هو المتكلم الفضولي الذي من شأنه النظر في الأبوال والبرازات. وقد صدق لأنه بلغ الغاية في المعالجات الطبية وتكلم بالعوراء والخبائث فيما سوى ذلك. ومما نقل عنه: الطب حفظ الصحة، ومرمة العلة وقال: السموم ثلاثة: أكل الشواء المغموم، واللبن الفاسد، والسمك المنتن. علي بن ربن الطبري كان من كتاب مدينة مرو وله همة رفيعة، وعلم بالإنجيل والطب. وتفسير ربن العلم العظيم وابنه كان حكيمًا كاملًا، يعرف ذلك من كتابه المعنون بفردوس الحكمة، وبه تصانيف كثيرة، أكثرها في الطب. ومما نقل عنه: السلامة غاية كل سؤال. طول التجارب زيادة في العقل التكلف يورث الخسارة شر القول ما نقض بعضه بعضًا. إسحاق بن سليمان قال: من تناول الطين تسدر العين، ويصفر اللون، ويبخر الفم، وتحفر الأسنان وقال: عجبت لمن اقتصد في أكل الخبز الحنطي، واللحم الحولي، واحترز من الهواء الوبي، والماء الردي، كيف يمرض. أبو الحسن البسطامي قال: الأكل على الشبع داء، والشرب على الجوع ردى وقال: راحة الجسم في قلة الطعام وراحة الروح في قلة الكلام، وراحة العقل في قلة الاهتمام. وقال: اجتنب ثلاثة وعليك بأربعة، ولا حاجة لك إلى الطبيب: اجتنب الغبار والنتن والدخان، وعليك بالحلو والدسم والحمام والطيب مع الاقتصاد. وقال: عمى العقل داء لا دواء له. اسحق بن قريش قال: لا سواء أكل يوم يمنعك أكل حول، وصبر يوم يسوق إليك أكل حول. وقال: خير الطعام أنظفه وأخفه وأمرؤه. أبو زكار النيسابوري كان حاذقًا عالمًا بأجزاء العلوم الحكمية، وصنف كتابًا وسماه " المبتدى والمنتهى " وفيه فوائد كثيرة. وقال: إن للنصارى شياطين يدعونهم إلى تناول لحم الخنزير وللمسلمين شياطين يدعونهم إلى شرب الخمر، وأكل الجبن اليابس، والقديد والكواميخ. أبو الحسن الصميري كان حكيمًا معروفًا في زمانه قال: الحمية في العلة هي الزمام لاقتياد الصحة. قال: من أثنى على نفسه فقد أظهر حمقه. وقال: بالبر تذهب الوحشة. أبو الحسن بن تكين البغدادي الضرير

1 / 2

قاد الحكمة بزمامها، وكان مكفوفًا يقوده تلميذه إلى ديار المرضى. وكان أبو الخير يهجنه في كتاب امتحان الأطباء. وقال: من قاد أعمى شهرًا، يعني ذلك الطبيب، تطبب وعالج وأهلك الناس. وقال ابن تكين: إن الحمية في النهاية ليست بمحمودة، والطرفان من الإجحاف والإسراف مذمومان، والواسطة أسلم. الحكيم أبو الخير الحسن بن بابا بن سوار بن بهنام كان بغدادي المولد وقد حمل إلى خوارزم ثم لما استولى السلطان محمود بن سبكتكين على خوارزم حمله إلى غزنة، وعرض عليه الإسلام فأبى، وعمره جاوز المائة. فمر يومًا بمكتب فيه معلم حسن الصوت يقرأ سورة ألم أحسب الناس. فوقف وبكى ساعة ومر، فرأى في هذه الليلة في منامه النبي ﵇ وهو يقول له: يا أبا الخير مثلك مع كمال علمك يقبح أن تنكر نبوتي. فأسلم أبو الخير في منامه على يد رسول الله. فلما انتبه من منامه أظهر الإسلام، وتعلم الفقه على كبر سنه، وحفظ القرآن، وحسن إسلامه. وقد حكم له أبو الريحان المنجم بنكبة قاطعة، فدعاه السلطان محمود يومًا، لعارض عرض له، وبعث إليه مر كوبه، فمر على سوق الخفافين فنفرت دابته، وأهلكت أبا الخير. وتمام قصته وقصة ابنه أبي علي ابن أبي الخير مذكور في تاريخ آل سبكتكين. وقد صنف ذلك التاريخ أبو الفضل محمد ابن الحسن البيهقي الكتب. وقال أبو علي ابن سينا في بعض كتبه: فأما أبو الخير فليس من عداد هؤلاء ولعل الله يرزقنا لقاءه فيكون إما إفادة وإما استفادة. وبعض الناسخين يكتب فأما أبو نصر وهذا غلط عظيم، لأن أبا نصر الفارابي مات قبل ولادة أبي علي بثلاثين سنة. وقد أفرد السلطان محمود للحكيم أبي الخير ناحية يقال ناحية خمار، ونسب أبو الخير إلى تلك الناحية وقيل له أبو الخير خمار، تمييزًا بينه وبين أبي الخير صاحب البريد بقصدار وقدسها من قال هو أبو الخير الخمار. وله تصانيف كثيرة في أجزاء العلوم الحكمية ورأيت له (رسالة) إلى الوزير الأمين أبي سعيد فيها كلمات نافعة شافية. وقيل لأبي الخير بقراط الثاني وحق له ذلك فإن النبي ﵇ سماه في منامه عالمًا. وسئل أبو الخير حين كان نصرانيًا عما يأكل ويشرب كل (يوم) فقال: المدققة والمرققة والملبقة والمروقة. وله تصانيف لطيفة في تدبير المشايخ عجيب جدًا. ومما نقل عنه: أحسن القول ما وافق الحق. من طلب ما في أيدي الناس حقروه ومن صنع خيرًا أو شرًا فبنفسه ابتدأ. المتمسك بالغرور كالمقتبس من ضوء البرق الخاطف. الحكيم متى بن يونس المترجم كان حكيمًا نصرانيًا شرح كتب أرسطو وله تصانيف في المنطق وغير ذلك. ومما نقل عنه أنه قال: السعادة ثلاثة نفسانية وبدنية وخارجية، فالنفسانية هي العلوم الحقيقية ويتبعها الأخلاق المحمودة والفضائل والسيرة الحسنة والبدنية كمال الأعضاء (المتشابهة الأجزاء والأعضاء) الآلية وجودة التأليف والتركيب والخارجية حسن اكتساب الدنيا وتحصيلها (من) وجوهها وإنفاقها في وجوهها على ما يوجبه العقل والدين ولا تجتمع تلك السعادات لأحد إلا في النوادر. يحيى بن منصور المنجم هو صاحب الرصد في أيام المأمون، وكان متبحرًا في علوم الهندسة قال إذا غلبت القوة الغضبية والشهوانية العقل لا يرى المرء الصحة غلا صحة جسده ولا العلم إلا ما استطال به ولا الأمن إلا في قهر الناس ولا الغنى إلا مكسبة المال وكل ذلك مخالف للقصد مقرب من الهلاك. محمد بن جابر الحراني البتاني هو محمد بن جابر بن سنان بن ثابت بن قرة الحراني صاحب الرصد المشهور بعد أيام المأمون وكان حكيمًا عارفًا بتفاصيل أجزاء علوم الحكمة وقد أنفق أموالًا في الرصد وبتان قرية في حدود حران، وإليها ينسب محمد بن جابر. ومما نقل عنه كدورة العمر في جار السوء والولد العاق والمرأة السيئة الأخلاق. وقال: ثلاثة أشياء لا يستقل قليلها: الدين والعداوى والمرض. الشيخ أبو نصر الفارابي هو محمد بن محمد بن طرخان من فاراب تركستان، وهو الملقب المعلم الثاني ولم يكن قبله أفضل منه في حكماء الإسلام. وقيل الحكماء أربعة اثنان قبل الإسلام وهما أرسطو (وأبو قراط) واثنان في الإسلام وهما أبو نصر وأبو علي وكان بين وفاة أبي نصر وولادة أبي علي ثلاثون سنة وكان أبو علي تلميذًا لتصانيفه.

1 / 3

وقال أبو علي أييست من معرفة غرض ما بعد الطبيعة حتى ظفرت بكتاب لأبي نصر في هذا المعنى، فشكرت الله تعالى على ذلك، وصمت وتصدقت بما كان عندي. وله تصانيف كثيرة أكثرها موجود بالشام وما يوجد منها بخراسان المختصر الأوسط في المنطق والمختصر الموجز وكتاب البرهان وجوامع كتب المنطق وآراء المدينة الفاضلة والتعليقات وشرح كتب أرسطو وشرح اوقليدس في الموسيقى أربع مجلدات وكتاب النفس وكتاب التفسرة وطماناوس ورسائل كثيرة. وقد رأيت في خزانة كتب نقيب النقباء بالري من تصانيفه ما لم يقرع سمعي اسمه وأكثر ما رأيته كان بخطه وخط تلميذه أبي زكريا يحيى بن عدي. ورأيت في كتاب أخلاق الحكماء أن الصاحب الجليل كافي الكفاة إسماعيل بن عباد بن عباس بعث إلى أبي نصر هدايا وصلات واستحضره واشتاق إلى ارتباطه وأبو نصر يتعفف وينقبض ولا يقبل منه شيئًا حتى ضرب الدهر ضرباته ووصل أبو نصر إلى الري وعليه قباء زري وسخ وقلنسوة بلقاء. وكان أثط قصيرًا على هيئة بعض الأتراك وكان الصاحب يقول من أرشدني إلى أبي نصر أودعاه إلي أعطيته مالًا أغناه فانتهز أبو النصر الفرصة حتى دخل مجلس الصاحب متنكراُ وكان المجلس غاصًا بالندامى والظرفاء وأرباب اللهو فأضافوا الجرم إلى البواب ورموا إليه أسهم العتاب واستهزأ بأبي نصر كل من كان في ذلك المجلس، وهو يحتمل أذى الإيذاء ويغضي على قذى الإستهزاء حي اطمأنت أنفسهم بمجالسته وأنساهم الشراب ذكره ودارت الكؤوس ومالت الرؤوس وطربت النفوس وحمل أبو نصر مزهرًا واستخرج لحنًا مع وزن نوم المستمعين وصار كل واحد منهم كالذي يغشى عليه من الموت وقيل كانت معه آلة أعدها لهذا الشأن وكتب على البربط قد حضر أبو نصر الفارابي واستهزأتم به فنومكم وغاب. ثم خرج من الري متنكرًا مع رفقة، متوجهًا تلقاء بغداد، فلما أفاق الصاحب وندماؤه تعجبوا من حذقه في صناعة الموسيقى، وتأسفوا على فوات منادمته. ثم قال الصاحب: أديروا الكؤوس على اسمه لعل الزمان يرده علينا. فلما حمل المطرب العود قال: أيها الصاحب قد كتب ذلك (الرجل) شيئا على مزهري، فلما نظرا إليه الصاحب وعرف انه أبو صر شق جيبه واستغاث، وجهز أعوانه في طلبه، فكان كالقارظ العنزي، فلم يجدله أثرًا، ولم يسمع عنه خبرا، وبقي بقية عمره متأسفا على فوات منادمته، والفعلة عن معرفته عن مشاهدته، وأين من المشتاق عنقاء مغرب وقد سمعت أستاذي ﵀ (يقول) أن أبا نصر كان يرتحل من دمشق إلى عسقلان فاستغفله جماعة من اللصوص الذين يقال لهم الفتيان فقال لهم أبو: خذوا ما معي من الدولاب والأسلحة والثياب (وخلوا) سبيلي فأبوا ذلك وهموا بقتله. فلما صار أبو مضطرا ترجل وحارب حتى قتل مع من معه، ووقعت هذه المصيبة في أفئدة أمراء الشام (أسوأ) وقع فطلبوا اللصوص ودفنوا أبا نصر، وصلبوهم على جذوع عند قبره. وبعض من لم يكن له معرفة بالتواريخ يحكي أن أبا نصر قد عراه الماليخوليا، ومرعلى شط دجلة برجل يبيع التمر فقال له: كيف تبيع التمر فأجاب الرجل بكلام غير ملائم، فضربه أبو نصر وقال: أسألك عن الكيف وأنت عن الكم، وهذا أبو نصر الطبيب السمر قندي لا أبو نصر الفارابي، والله تعالى أعلم. وقال الحكيم أبو نصر الفارابي: ينبغي لمن أراد الشروع في علم الحكمة أن يكون شابًا، صحيح المزاج، متأدبا بآداب الأخيار، قد تعلم القرآن واللغة وعلم الشرع أولا، ويكون صينا عفيفا متحرجا صدوقا، معرضا عن الفسق والفجور والغدر والخيانة، والمكر والحيلة، ويكون فارغ البال عن مصالح معاشه، ويكون مقبلا على أداء الوظائف، غير مخل بركن من أركان الشريعة، بل غير مخل بآداب من اداب السنة، ويكون معظما للعلم والعلماء ولم يكن عنده شئ قدر إلا للعلم وأهله، ولا يتخذ علمه من جملة الحرف والمكاسب، وآلة لكسب الأموال، ومن كان بخلاف فهو حكيم زور ونبهرج فكما أن الزور لا يعد من الكلام الرصين، ولا النبهرج من النقود، فكذلك من كانت أخلاقه خلاف ما ذكرنا لا يعد من جملة الحكماء وقال: من لا يهذب علمه أخلاقه في الدنيا لا تسعد نفسه في الآخرة. وقال: تمام السعادة بمكارم الأخلاق كما أن تمام الشجرة بالثمرة. وقال: من رفع نفسه فوق قدرها، صارت نفسه محجوبة عن نيل كمالها فصل إخوان الصفا

1 / 4

وأما أبو سليمان محمد بن معشر البستي ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني وأبو أحمد النهرجوري، والعوقي، وزيد بن رفاعه، فهم حكماء اجمتمعوا وصنفوا رسائل إخوان الصفا. وألفاظ هذا الكتاب للمقدسي. ومن حكمهم: مثل السلطان كمثل المطر،فما ظنك به إذا كان عادلا. الهوى آفة العفاف، واللجاج آفة الرأي المدن تبنى على الماء والمرعى والمحتطب المرأة (تفسد المرأة) كما أن الأفعى تأخذ السم من الأفعى الدنيا سوق المسافر الرماد دخان كثيف والدخان رماد لطيف. من أماتته حياته، أحيته وفاته.القناعة عز المعسر. الحكيم أبو عبد الله الناتلي كان حكيمًا عالمًا متخلقًا بأخلاق جميلة وكان أبو علي يقول قد ارتبطه والدي وكنت استفدت منه قوانين المنطق وانتهيت إلى غوامض يتعجب الناتلي منها فلما انتهيت في تعلم الرياضيات إلى المعطيات والمخروطات. قال لي الناتلي: استخرج هذه الأشكال من ظنك ثم أعرضها علي وكان يستفيد بسبب هذه الواسطة مني. وقد رأيت للناتلي رسالة في (واجب) الوجود وشرح اسمه وهذه الرسالة دالة على أنه كان مبرزًا في هذه الصناعة بالغًا الغاية القصوى في علم الإلهيات. ورأيت له أيضا رسالة في علم الإكسير وابو علي لا يذكره في مصنفاته إلا في كتاب المقضيات (السبعة) . قال أبو عبد الله الناتلي: عليك بالبحث عن جواهر النفس الشريفة وقال: النفس القديسة لا تنفع بالقياس الجدلي والخطابي. وقال: لا تدخر ما تخاف فقده. وقال: العارف لا يختار عرفان الحق على الحق. وقال: الحق يطلب لذاته، والخير يطلب لأجل العمل به. وقبل: إذا اشتبه عليك فلا أمران تدري في أيما الصواب فانظر أقربهما إلى هواك فاجتنبه. والله أعلم. يحيى النحوي الملقب بالطريق والمنسوب إلى الديلم كان يحيى الديلمي من قدماء الحكماء وكان نصرانيا فيلسوفا فأراد عامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ إزعاجه عن فارس وتخريب ديره، فكتب يحيى قصته إلى أمير المؤمنين وطلب منه الأمان فكتب محمد بن الحنفية له كتاب الامان بامر امير المؤمنين. وقد رايت نسخة هذا الكتاب في يدي الحكيم أبي الفتوح المستوفى النصراني الطوسي. وكان أبو الفتوح طبيبا حاذقًا، ماهرًا في صناعة الاستيفاء وكان توقيع امير المؤمنين عليه بخطه عليه " الله الملك وعلي عبده ". إما كتاب يحيى النحوي فظاهره سديد، وباطنه ضعيف. وفي الوقوف على تلك الشكوك والتوصل إلى حلها قوة للنفس، وغزارة للعلم، وتلك الشكوك ليس مما يفطن لعقدها الرشميون ممن نعلمه. فان انحلالها مبنية على فروع (و) أصول من كتاب السماع الطبيعي. ويحيى النحوي البطريق هو الذي صنف كتبا ورد وفيها على أفلاطون وأرسطو حين همت النصارى بقتله، وقال في شأنه أبو علي هو يحيى النوي المموه على النصارى، وأكثر ما أورده الإمام حجة الإسلام الغزالي ﵀ في تهافت الفلاسفة تقرير كلام يحيى النحوي. (ومن كلامه) يجب التعب والكد في طلب العلوم، وتحقيق ماهيات الأشياء، والاحتياط في النقل والبحث عن المنقولات. وله تصانيف كثيرة، منه أخذ الطلب خالد بن يزيد بن معاوية. قال يحيى: ليس منا من لم يعمل في صدره نهاره لدنياه وفي آخره لعقباه وقال: أقبح الأشياء بالسلطان اللجاج، وبالمقاتلة الجبن، وبالأغنياء البخل، وبالفقراء الكبر، وبالشيوخ المزاح، وبالشباب الكسل، وبجماعة الناس التباغض والتحاسد. وقال: الفقر الموت الأكبر. وقال: كل من الطعام ما اشتهيت، والبس ما تشتهيه الناس. وقال: من عرف فضل من هو فوقه عرف فضله من هو دونه. يعقوب بن اسحق الكندي كان مهندسا خائضا غمرات العلم، وله تصانيف كثيرة، وقد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات واختلفوا في ملته فقال قوم: (كان) يهوديًا ثم أسلم، وقال بعضهم كان نصرانيًا. وإنا ما حصلت علم المناظر، وما تخيلت أشكال ذلك العلم إلا من تصنيفه الذي هو نادر في ذلك الفن. وقد ارتبطه المعتصم. (وكان أستاذ ولده أحمد بن المعتصم وله رسائل إلى أحمد بن المعتصم) . قال يعقوب: اعتزل الشر فإن الشر للشرير خلق. وقال: من لم ينبسط بحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك

1 / 5