Эффект лотоса: роман о наночастицах в биомедицинских исследованиях
تأثير اللوتس: رواية عن جزيئات النانو في أبحاث الطب الحيوي
Жанры
كانت معظم المقاعد في القطار قد شغلت. وكافحت فاندا من أجل المرور عبر قطع الأمتعة التي تسد الممرات، ثم وجدت أخيرا مكانا مجاورا للنافذة في الدور السفلي من العربة الأولى. تركت حقيبتها في الرواق، بينما وضعت حقيبة الظهر على حجرها. وعلى المقعد المقابل لها، لكن بانحراف طفيف، تساقط جسد شاب يلهث بقوة وكأنه يعدو. أسهمت ملابسه الداكنة في إبراز ما به من شحوب، خلع نظارته وأخذ يمسح البخار المتكاثف على عدساتها بقميصه القطني. في تلك الأثناء تلاقت نظراتهما لوهلة. لم يبتسم، فنظرت فاندا إلى الجانب، ثم لمحته بطرف عينيها وهو يشبك ذراعيه أمام صدره ويستدير نحو النافذة. أما هي فتركت رأسها يغوص في حقيبتها. شعرت بثقل أجفانها، وبعينيها تغمضان، فانزلقت بخفة على أوائل موجات النعاس الغائمة. انتبهت من غفوتها إثر دفعة خفيفة. كان القطار قد بدأ التحرك ببطء نحو الشمال متأخرا خمس عشرة دقيقة عن موعده.
لمحت من نافذتها محلا تقليديا لبيع نماذج لبيوت الدمى. حتى العمارات العالية كان بها ما يوحي بحسن التصميم. ثم جاءت مجموعات من البساتين والحدائق الضيقة، ثم مروج، وبعض الكفور. ثم أخذت الأشياء التي تحيط بها في التلاشي وكأن فيلما يعرض كواليس طفولتها قد بدأت مشاهده تمر على النافذة. عاد بها إلى الريف ثانية، إلى ذات المكان الذي لم ترد قط أن تعود إليه. إلى بكرة صباحات الأحد حين كان والدها يحتسي كل النبيذ المقدم على المائدة، وفي وقت الغداء تتلو الأم الصلاة قبل تناول الطعام ثم يستمعون إلى موعظة القس بعد الظهر. حين بلغت الرابعة عشرة تبادلت في عيد الرماة قبلات خاطفة على العربة الدوارة بالملاهي ثم لحقت بشلة من الشباب المتحمس على الموتوسيكلات إلى صالات الديسكو في الجوار. وفي الشتاء، كانوا يذهبون إلى فينتربيرج، وفي الصيف يسافرون إلى مونيزيه. حين أتمت التاسعة عشرة غادرت دون أن تنظر وراءها ولو لمرة واحدة أخرى. قبل عام توفي والداها، أحدهما تلا الآخر بفترة وجيزة. لم تستشعر أي حزن، فقط شعورا مكتوما بالارتياح؛ ولذلك فإنها لم تحضر الجنازة أيضا، فلم تكن لتتحمل طقوس النفاق أمام قبريهما. كان أمامها الكثير من العمل ولم يكن ما معها من مال يكفي نفقات تذاكر السفر إلى أوروبا. لم يكن في الأمر ادعاء، وكانت حجة مناسبة في ذات الوقت. توقف أخوها روبرت عن الكتابة لها منذ فترة. لا بد أنه كان غاضبا عليها. ولا يمكن أن تلومه على ذلك. في مكان ما في حقيبتها يستقر خطاب موثق العقود، وفكرت في نفسها أنها سوف تضطر إلى الذهاب إليه. وفي الخارج، امتزجت درجات الرمادي خارج النافذة لترسم لوحة كئيبة للطبيعة. يا ترى كيف تبدو ماربورج؟ «مكان لطيف» كان صوت ريك لا يزال يرن بوضوح في أذنها. ألم يغمغم رئيسها الأمريكي بشيء عن قصر ما؟ تبهم الأصوات قليلا فلا تكاد تبين. أما هي فقد كانت تفضل السفر إلى هامبورج.
أخذ الشاب الجالس قبالتها يتحدث في الهاتف. هل يجوز أن تخاطبه؟ كانت فقط تريد أن تطمئن أن السيدة التي تعرفها كيرستن قد سلمت الجارة مفتاح الشقة. نعم، إن كيرستن عطية من السماء؛ فقد حضرت في الوقت المناسب تماما إلى روتشيستر لتؤدي تدريبها العملي في المعمل. كانت فاندا مفلسة تماما؛ لذلك كانت في غاية الامتنان أن سمحت لها كيرستن بقضاء أسبوعين في مسكنها بماربورج. وكان ذلك بمثابة مساعدة لتبدأ حياتها، تسمح لها أن تبحث عن شقة بهدوء وأن تنظم الشكليات المتعلقة بالوظيفة الجديدة.
أنهى ذاك الشخص ذو الهاتف المحمول مكالمته الهاتفية، ثم أعاد دس الهاتف في جيب معطفه، وسحب منه قصاصة ورق وفردها ببطء. كانت عيناه تتقافزان في اضطراب على الورق، وكانت هيئته بشعره الأشعث تشبه قائد فرقة موسيقية ترن في رأسه النغمات، على أنها لم تكن موسيقى كلاسيكية، بل إيقاعات أكثر تهديدا، مثل: «غن لي أغنية الموت.» وحين طوى الورقة ودسها في الجيب الداخلي لمعطفه كان عواء الهارمونيكا يرجرج جمجمتها. •••
كان الشاب - أندرياس - متأكدا أنها تراقبه منذ فترة، وحين رفع ناظريه أدارت هي رأسها نحو النافذة بسرعة. أيفترض أن يعرفها من قبل؟ لن يستطيع الآن تحديدا أن يدقق في ملامحها. وجه جميل بلا شك، رغم أن أيا من تفاصيله لم يكن يعجبه حقيقة. كانت نظرتها جامدة، وبشرتها شاحبة، وشفتاها جد رفيعتين، أما النمش على أنفها فقد بالغ في إكسابها مظهرا طفوليا. أعجبه شعرها فاحم السواد، رغم أنه قصير جدا، وهو يحبذ لو كان أطول قليلا. لم يكن قط ضد الأبهة التي تصفف بها لاريسا شعرها ولا رائحته الزكية. لماذا لم يطلعها على الحقيقة مؤخرا؟ لم يكن عليه سوى أن يقول «نعم». رأى نفسه مرة أخرى، مستندا إلى إطار باب الحمام، وقد دفن يديه في جيوب بنطاله، وأخذ يراقب صديقته وهي تحزم أمتعتها، كانت ترتب لرحلتها، أما هو فسيسافر على وجه السرعة إلى ميونخ؛ فقد رجته أمه أن يأتي سريعا، إذ كان والده كعادته دوما متعاليا متفاخرا، حتى في موته؛ لذا فإن إجراءات الجنازة والدفن كانت تستهلك من الوقت ما هو جدير به. «ألا تحب أن أصحبك؟» لقد كانت الشفقة في عيني لاريسا هي ما استثارت رفضه. «يجب أن تفكري الآن في نفسك. أسرتي هي شأني وحدي.» كان يريد أن يبدو مسترخيا، فتحدث بصوت عميق. لم يكن يريد أن يثقل عليها بمشاكله فيسلب منها فرحتها برحلتها التي طالما تاقت إليها. شعر أن إيماءة رأسها تحمل له امتنانا. كان مهما له ألا يكون انطباعها الأخير عنه هو صورة العاجز المحمل بمشاعر الذنب كما كان يشعر حقا، لكنه في هذه الأثناء يتوق إلى أن يدس رأسه في شعر لاريسا الغامق المصفف كلبدة أسد، وينسى نفسه فيه؛ لكنها كانت في طريقها إلى مطار فرانكفورت. تمنى لو أنها تطل من النافذة كما يفعل هو الآن، تمنى لو أنهما يعيدان التعرف أحدهما على الآخر ولو للحظات وجيزة. في وقت ما رن هاتفه المحمول. «أين أنت الآن؟» جاء صوتها مليئا بالثقة. لكن قطاريهما كانا قد تفرقا من زمن. ظل ينظر لعربة الأمتعة الكبيرة المستقرة في الممر. كانت بطاقة شركة الطيران التي تحمل رقم الحقيبة لا تزال تتدلى من مقبضها. تنهد. البعض يأتي والآخر يمضي.
أخرج أندرياس ثانية من جيبه القصاصة التي دسها له غريب ما في جنازة والده. كان يقف على القبر إلى جوار والدته، ومر عليهم المعزون وسلموا عليه وشدوا على يديه؛ أناس لم يرهم من قبل قط لمسوه، أربكوه، ثم تركوه خاويا. كانت عيونهم تحوي دائما نفس السؤال، وكأنه يستطيع أن يقدم إجابة عن الموت المفاجئ لأبيه. أحيانا أيضا كانت المقابلة بلا نظرات على الإطلاق، مجرد مس خفيف بأطراف الأصابع. في وقت ما خفض هو أيضا ناظريه. لا يذكر كم من الوقت ترك يديه تتناوبها وفود المعزين. ثم فجأة وجد تلك الورقة بين أصابعه، وحين رفع رأسه وجد شابا واقفا أمامه، في منتصف العشرينيات، لا يمكن أن يكون أكبر منه هو نفسه. كانت نظراته جادة وتكاد تكون مشجعة. استغرق أندرياس بعض الوقت كي يدرك أن شيئا آخر كان يحدث هنا، لكن الوقت كان قد تأخر واختفى الشاب. في اللحظات الأولى شكك في عقله؛ هل كان ما رآه خيالا؟ لكن كانت معه الورقة.
مر بعينيه سريعا على الأسماء المدونة في قائمة، ووجد أن قليلا فقط منها كان ألماني الوقع. إنها مجموعة عالمية. قام بعدها، بلغ عددها العشرين شخصا. كان معظمها يحمل لقبا. لكن فيما عدا اسم أبيه لم تشكل له قائمة الأسماء أي معنى. قبل شهرين - في فبراير - تشاجر معه الشجار المعتاد، لكنه يومئذ لم يكن يدري أنها ستكون المرة الأخيرة.
الفصل الثاني
روابط تاريخية
جلس أندرياس هيلبيرج في مكتب والده. كان يغمض عينيه بين الحين والآخر من فرط بياض صومعة والده. فأشاح بوجهه، فوقعت عيناه على صورة الرزنامة، وهي صورة لامرأة أفريقية مطبوعة بحجم كبير وألوان براقة على ورق مصقول. إنه ذلك الجانب من أفريقيا الذي يخاطب السياح: أفريقيا العفية. وكانت الصورة عبارة عن شعار شركة أدوية، وكان هذا في شهر فبراير. أين إذن الرابط بين الصورة وبين الوقت المشار إليه من العام؟ لم يفهم أندرياس شيئا. أعاد النظر إلى والده الجالس خلف المكتب، بروفيسور جونتر هيلبيرج مرتديا - كما هي الحال دوما - رابطة عنق وبالطو كبير الأطباء مزررا بإحكام. «علام تعمل حاليا؟» لا يزال سؤال أبيه معلقا في أجواء الغرفة. ماذا عليه أن يقول له؟ إنه يفكر في أن يكتب موضوعا للدكتوراه حول إلغاء التفكير في الأبحاث الطبية الحديثة؟ حول تآكل اللغة لدى العلماء؟ الخطأ في مفاهيم العلوم الغربية وتطبيقاتها التقنية؟ الوهم في ادعاء حرية التصرف وأزمة نجاح السلوك الإنساني في حين لا يمكن توقع عواقبه؟ على الأرجح سيقوم أبوه بدحض أفكاره على أنها خزعبلات فلسفية، أفكار لا يمكن أن ينجح لو تتبعها، ولن تمكنه حتى من إعالة أسرة. خطرت على باله جملة لم تكن له، لكنها تمتلك من المواد الناسفة القدر الذي يحتاجه الآن: «من الممكن توظيف القنابل النووية بالكيفية نفسها التي توظف بها رصاصات المدافع»، وقد سدد كلمات الرئيس الأمريكي إيزنهاور تلك إلى صدر والده. رأى كيف أن أباه عض على شفتيه، وأخذ يحرك رأسه يمنة ويسرة مثل بندول الساعة وكأنه يبحث عن منطقة وسطى. «كنت أظن أننا أغلقنا هذا الموضوع أخيرا وتركناه وراءنا. أنت تعرف رأيي. هذا ما قاله رجل عجوز قبل خمسين سنة. هذه أعراض تجاوزناها من زمن. اسمع يا ولد. توقف عن شعورك بالشفقة على ذاتك. عد إلى الواقع.» ثم أخذ في إلقاء محاضرة حول معاهدات حظر انتشار الأسلحة النووية، وأننا تعلمنا منها درسا للمستقبل، هو أن كل تكنولوجيا مفيدة من الممكن أن يساء استخدامها، ولهذا فإن أي استخدام ينبغي أن يخضع للنظام بل والرقابة، ولأننا نحن معنيون بما حدث في الماضي فقد تعلمنا في هذه الأثناء أن نتعامل بمسئولية. كان أندرياس قد توقف عن الإنصات لوالده منذ مدة؛ إذ لم يكن يحب والده حين يعظ، لكن صيغة الجمع لضمير المتكلم «نحن» في الجمل التي يستعملها والده، هذا الضمير الجامع الذي يبدو وكأنه ملزم، حفر مكانا في ذاكرته، بينما كانت عيناه تحدقان بالمكتب وتتنقلان بينه وبين والده. يتذكر كلمات مثل «حبات كرز»، وكيف أن والده كان ينطقها بطريقة يهيئ للسامع معها أنه سيقذف نواتها من فمه. تأمل أندرياس الصورة العائلية التي تحوي جروا حديث الولادة. إطارها لصانع مشهور، أما الوجوه فيها فقد أصبح من الصعب إعادة التعرف عليها. صبي قامته في نصف طول أندرياس اليوم، والجرو الصغير رمادي، مشلول، عاجز عن ضبط حركته. إلى جوار الصورة وجد كرة الزجاج التي كان قد أهداها إلى والده قبل كم يا ترى من السنين؟ لم يعد يذكر. والآن، وكرة الزجاج لا تزال في مرمى بصره، تقفز إلى ذاكرته صيغة الجمع تلك في ضمير المتكلم «نحن»، بينما يقول بصوت خافت: «نحن علينا أن نتعلم أن نفكر بطريقة مختلفة.»
Неизвестная страница