المقدّمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إن الإيمان بالنبوة أو قيام صلة بين الله والانسان بواسطة احد عباده الذي نسميه نبيا او رسولا من أهم ما يميز الأديان السماوية عن غيرها من الديانات، إذ أن هناك أديانا كالبرهمية تؤمن بوجود الله لكنها تنكر النبوات ولا ترى حاجة لوجود هذه الصلة بين الله والانسان، وحجتهم في ذلك، أن ما أتى به الانبياء إما موافق للعقل ففي العقل غنى عنه أو مخالف له فلا حاجة لنا به، لأن العقل هو المصدر الوحيد الذي نستدل به على حقائق الأمور. والحق أن من المستحيل ان نؤمن بفكرة وجود الخالق المدبر ولا نتبعها بالايمان برعايته لخلقه وتدبيره المستمر للكون. إذ ما الفائدة من الخلق اذا لم يعن الخالق بشؤون خلقه، أما أن العقل قد يعارض ما تأتي به النبوة فليس هذا ضروريا، لأن جميع الأمور التي نزلت بها الرسالات السماوية يقرها العقل الذي يعتمد على تفكير علمي منظم، هذا بالاضافة الى ان لكل من العقل والوحي ميدانه الخاص في كثير من المسائل، واذا امكن لنا ان نتوصل بالمنطق التجريبي والرياضي الى حقائق علوم الكون والحياة فإننا لا نستطيع بغير الوحي ان نتوصل الى حقائق ما وراء المادة.

المقدمة / 1

والصلة بين الله والرسل تتم بوسائل متعددة لن نبحث في تفصيلها وانما سنلقي نظرة سريعة على أهم هذه الوسائل لنأخذ فكرة عنها. إن الوحي غالبا ما ييدأ بالرؤى الصادقة، وفي قصص الأنبياء كثير من حوادث هذه الرؤى. وقد قص علينا القرآن كيف انها طريقة من طرق الوحي عند ما حدثنا عن ابراهيم واسماعيل ﵉، وكيف أمر ابراهيم بذبح ابنه «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى، قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» «١» . وقد تكون وسيلة الاتصال الالهام في حالة اليقظة كما حدث للرسول محمد ﵊ اذ أتاه هذا الالهام وهو جالس بين المسلمين وعبر عنه بقوله «هذا رسول رب العالمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها..» . وقد يكون الاتصال بأن يكلم الله الرسول مباشرة كما حصل لموسى ﵇ مما قص علينا القرآن قصته «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ ...» «٢» . والطريقة المعتادة في حصول الاتصال بين الله والرسل هي الوحي بواسطة جبريل ﵇ «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» «٣»، وكان جبريل أحيانا ينزل مجسدا ويراه المسلمون كما حصل _________ (١) الصافات ١٠٢ (٢) القصص من ٣٠- ٣١ (٣) الشعراء من ١٩٣- ١٩٥

المقدمة / 2

في حديث أركان الايمان والإحسان وأشراط الساعة الذي روي عن عمر ابن الخطاب ﵁. ومن الطبيعي حين يدعي انسان ما انه يتصل بالله ويحمل منه الى الناس رسالة ترتب عليهم تكاليف وواجبات ان يطالبه الناس بالدليل على صدقه، ولم ير القرآن في هذا ما يخرج على المعقول والمنطق حتى انه قصّ علينا ان ذلك حصل من بعض الانبياء «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» «١» . ومن هنا ظهرت الحاجة الى وجود ما يثبت النبوة، وتعد المعجزات من أهم الوسائل التي أنزلها الله على رسله ليقتنع الناس انهم لا يمثلون أنفسهم وإنما يمثلون الله تعالى، ولا شك ان الايمان بالرسل مرتبط ارتباطا وثيقا بالايمان بالله وبالغيب الذي يعتبر من اهم صفات المسلم التقي «الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» «٢» . والقرآن يتحدث عن مجموعة من المعجزات المادية منها والمعنوية. والمعجزة في حقيقتها هي الحادث الخارق للعادة والقوانين التي يلاحظها الناس وتسير عليها حوادث الكون يجريه الله تأييدا للأنبياء. وقد حاول البعض ان يعطي المعجزة صورة الأمر العادي الذي يحصل في الطبيعة بطريق الصدقة أو العلم، ولكن المعجزة في الواقع تفقد معناها وكونها دلالة على صدق النبي اذا فقدت الصفة الخارقة. فاذا قال مدعي النبوة إن دلالة صدقي أن تطلع الشمس من المغرب وهي تطلع عادة من المشرق كان ذلك دلالة وتأييدا له، أما اذا أخبر قومه ان الشمس تطلع من المشرق فليس في طلوعها ما يثبت أي إعجاز. _________ (١) سورة البقرة ٢٦٠ (٢) سورة البقرة ١ و٢

المقدمة / 3

ومن المعجزات المادية: ناقة صالح، وقد قص القرآن خبرها بقوله: «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «١» . ومنها معجزة عصا موسى التي حدثنا القرآن خبرها بقوله: «قال لئن اتخذت إله غيري لأجعلنك من المسجونين، قال او لو جئتك بشيء مبين، قال: فأت به إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فاذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فاذا هي بيضاء للناظرين» . ومنها معجزات عيسى ﵇، التي عناها القرآن بقوله: «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» . والملاحظ ان معظم الأمم التي أتتها المعجزات اصرت على كفرها وإلحادها ولم تؤمن، وقد بين القرآن ان الهداية بيد الله، وأنه مهما تكن قيمة المعجزة فان نفوسا كثيرة لن ترتدع أو مؤمن «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «٢»» . هل هناك أبلغ من هذه المعجزة؟ إن البعض سيقول انه السحر او خداع البصر، لذلك فإنه تعالى يخبر الرسول بهذا المعنى بقوله: «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا «٣»» . _________ (١) الشعراء ١٥٣- ١٥٦ (٢) الحجر ١٤ (٣) الاسراء ٥٩

المقدمة / 4

أما المعجزات المعنوية والعقلية فأهمها: القرآن الكريم الذي نزل على محمد ﵊. ونستطيع ان نلاحظ بهذه المناسبة ان هذه المعجزة ترتبط ارتباطا وثيقا بالرسالة. والمعجزات إما ذاتية تتعلق بنقل ماهية الرسالة او انها خارجة عن جوهرها، ومعجزة القرآن من النوع الاول لأنها عقلية تخاطب الفكر البشري وتعتمد على الاقناع العقلي اكثر مما تعتمد على القناعة الحسية التي هي اساس المعجزات المادية. ولا شك ان البشرية- حتى بعثة الرسول- كانت قطعت شوطا كبيرا من الرقي العقلي، فأمكن ان تخاطب عقولهم مباشرة، وخطاب العقل أكثر شمولا ودواما واستقرارا، لذلك كان القرآن الكريم معجزة الرسول حتى أبد الدهر. اختلف العلماء والباحثون في حقيقة الاعجاز في القرآن، ويمكن ان نحدد آراء هؤلاء العلماء في ثلاثة اتجاهات رئيسية: ١- اتجاه يرى ان المعجز في القرآن هو صياغته اللفظية الخارقة للعادة وبلاغته الواضحة التي اعجزت العرب ان يأتوا بمثله. ٢- واتجاه يرى الاعجاز فيما ورد في القرآن من الإعلام عن الغيوب وعن حوادث الامم السابقة وتاريخها وعقائدها، فقد أشار القرآن الى حوادث ستقع في المستقبل ثم وقعت كما حدّث، مثال ذلك قوله تعالى: «ألم، غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين» . فقد حصل ان الفرس غلبت الروم، فأخبر القرآن عن هذه الواقعة، وأنبأ ان الروم سينتصفون من خصومهم في بضع سنين، وتم ذلك فعلا؛ وبما ان الانسان لا يقدر على علم الغيب فان القرآن منزل من قبل الله وفيه من الاعجاز ما فيه. ثم إن القرآن تحدث عن تاريخ الأمم السابقة وأديانها

المقدمة / 5