إن روحي الخصب يمجد صورة واحدة في كل أبياته وقصائده.
أحيانا يفتنه سناها المضيء فيرفعها إلى السماء المزدانة بالنجوم
ويسجد أمامها سجود العابد كما تفعل الملائكة فوق السحاب.
المهم على كل حال هو التفسير الميتافيزيقي للجمال والعشق (الإيروس) الذي يحس به كل من «تاسو» والأميرة؛ فتاسو يشعر من أول لقاء له مع الأميرة بأن جمالها يأسره. ولعله قد شعر قبل ذلك بأن هذا الجمال نموذج عال يفتقر إليه الواقع، أو بأن وجودها قد تشكل بالحقيقة والجمال في صورة يعجز عنها الواقع. ولقد ظل يقنع نفسه بهذه الفكرة الأفلاطونية الخالصة، حتى اعتقد أن المثل الأعلى للوجود قد تحقق في الأميرة، بعد أن ضاع من العالم المحيط به، وأصبحت في نظره خيالا من الماضي أو مثالا من المثل البعيدة عن عالم الواقع والتاريخ!
وليست الأميرة أقل منه إيمانا بهذه المثل العالية أو القيم الأخيرة، ولا هي أقل منه شوقا إلى إثراء الحاضر البائس بالجمال المثالي. ولكن إذا كان هذا العشق المشترك هو الذي يربط بينهما برباط من التقدير والإعجاب فإن هناك شيئا آخر يفرق بينهما تفرقة شائعة؛ فالأميرة تؤمن بأن مثال الجمال لا يتحقق في الواقع، أو بأن لحظة تحققه لم تأت بعد. وهي تؤمن بذلك إيمانها بقدر قاس أو قانون صارم لا سبيل إلى الإفلات منه. وطاعتها لهذا القانون تكسب شخصيتها مسحة من الكبرياء الحزينة أو الحزن المتكبر، وتطبع حياتها وسلوكها بطابع الزهد والصدود الذي عرفت به شخصيات نسائية أخرى في أعمال جوته، من أهمها شخصية «أوتيليه» في روايته «الأنساب المختارة».
وقد ساعدت على هذه المعرفة الأليمة بتعاسة الواقع وبؤسه تجارب شخصية عديدة مرت بحياة الأميرة؛ فلقد مرضت في شبابها مرضا أشرف بها على الموت، كما عانت أمها المسكينة من قدر قاس لا يرحم، وطبيعي أن أمثال هذه التجارب الشخصية لا تكفي وحدها لطبع شخصيتها بطابع الاتزان والتعفف والزهد اليائس الذي تتميز به. بل إن هناك من الدلائل ما يشير إلى أن هذا القدر الشخصي لم يكن إلا مقدمة لقدر أعم وأشمل، وضعت فيه هي و«تاسو» وتعلمت منه أن الزمن ضنين والواقع فقير. وإذا كان «تاسو» لا يزال يحاول أن يطوع هذا الواقع لمثله وأحلامه ويفرض على ذلك الزمن قانونا لم يأت أوانه، فقد عرفت هي أن الواقع قد اغترب عن المثال، والفعل قد انشق على المعنى، فوفرت على نفسها آلام خيبة الأمل المتكررة التي يعانيها «تاسو». وليس معنى هذا أنها استسلمت لمرارة الزمن، ففقدت الإيمان بكل قيمة أو معيار. بل معناه على العكس من ذلك، أنها راحت توجه حياتها على هدى قيم موضوعية متزمتة لا مكان فيها للرغبة أو الطموح، وأنها قد عرفت - والمعرفة مريرة - فأخذت نفسها بفضائل الصبر والاحتمال والحرمان. إن أكثر أحاديثها مع «تاسو» تشهد على ذلك؛ فهي تحاول أن تهديه إلى التعقل والاتزان . وتحاول أن تريه الواقع البائس على حقيقته، وهو لا ينفك سادرا في أحلامه. تائها في ضلال حبه. ومع أنها تشعر بغربتها عن العالم المحيط بها. وتحس بوحدتها في البلاط وعزلتها عن الدوقة «ليونورا سانفيتاله» أقرب الناس إليها. فهي لا تتردد مع ذلك في الإيمان بالقيم والتقاليد التي تتحكم في عالم البلاط الذي نشأت وتربت فيه. وإذا كان هذا الإيمان هو الذي يجمع بينها وبين شقيقها الأمير، والوزير «أنطونيو» والدوقة «ليونورا». فهو كذلك ما يفرق بينها وبينهم. ذلك أنها تعتقد أن القيم والعادات السائدة في حياة القصر شحيحة في هذه الفترة المحدودة من الزمن. وتعتقد في الوقت نفسه أن هناك قيما أعلى منها لم يئن أوان تحققها في عالم الواقع. ولعل هذه العقيدة هي التي تجمع بينها وبين «تاسو» وتجعلها تقف منه موقف الإعجاب الصامت، والحب الزاهد الحنون. وإذا جاز لنا أن نتحدث عن خطأ «تاسو» أو خطيئته، فإن في استطاعتنا أن نقول إنهما يكمنان في إساءة فهمه للحظة المناسبة، ومحاولته اليائسة للتوفيق بين المثال والواقع، والتوحيد بين الروح والفعل، في زمن قدر عليه أن يشهد الفراق الحاسم بينهما. إنه يريد أن يثري عالما حكم عليه بالفقر، ويحقق المطلق على أرض الواقع النسبي. ومن هنا فإن المسرحية تفرض ثلاث مراحل زمنية، تتابع واحدة بعد الأخرى على نحو يشبه ما نجده في تصور أفلاطون:
فهناك زمن الوحدة المثالية أو الأسطورية بين عالم مثالي وآخر واقعي، يتبعه زمن تمت فيه الفرقة بينهما فكان الانقسام إلى جسد وروح، وفعل وفكر، وقد يأتي بعدهما زمن ثالث يتحقق فيه الصلح من جديد، وتتلاشى الثنائية الظالمة في نعيم الوحدة والسعادة الخالدة.
وليست للإنسان يد في هذا اللحن الزمني المتتابع. وليس عليه كذلك إلا أن يعترف ويندمج فيه. أما أن يقف منه موقف الاعتراض والاحتجاج، فلن ينتهي منه إلا إلى نهايته. ولن ينتج عنه سوى الندم أو الجنون أو السقوط في هاوية المأساة. •••
وقد أشار كثير من النقاد في هذا الصدد إلى أوجه التشابه العديدة بين «تاسو» ومسرحية سوفوكليس «أوديب ملكا»
2
Неизвестная страница