Correction of Al-Tanbih

Ан-Навави d. 676 AH

Correction of Al-Tanbih

تصحيح التنبيه

Исследователь

محمد عقلة الإبراهيم

Издатель

مؤسسة الرسالة

Номер издания

الأولى

Год публикации

1417 AH

Место издания

بيروت

تَصْحِيحُ التَّنْبِيهِ

لِلْإِمَامِ الْفَقِيهِ أَبِي زَكَرِيَّا مُحْيِي الدِّينِ يَحْيَى بْنِ شَرَفِ النَّوَوِيِّ

٦٣١هـ - ٦٧٦ هـ

ويَليْهِ

تَذْكِرَةُ النَّبِيهِ

في تصحيح التنبيه

لِلْإِمَامِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عمر بْنِ جَمَالِ الدِّينِ الإِسْنَوِيِّ

٧٧٢هـ - ١٣٧٠م

ضبط وتحقيق وتعليق

الدّكتور محمّد عقله الإِبْرَاهِيمْ
الأستاذ المشارك بكلية الشريعة الجامعة الأردنية

الجزء الأَوَّلّ

مؤسسة الرسالة

1

بِسْمِ ٱللَّٰهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

2

تصحيح التنبيه

ويليه

تذكرة النببيه

١

3

جَميعُ الحقوق محفوظة لِلنّاشِرْ

الطّبْعَّة الأولى

١٤١٧ هـ / ١٩٩٦م

مؤسسة الرسالة - بَيرْوت - وَطى المصَيُطبة - مُبْنِى عَبْد اللّه سُليت

تلفاكس: ٨١٥١١٢ - ٣١٩٠٣٩ - ٦٠٣٢٤٣ - ص.ب: ٧٤٦ - برقياً: بيوشران

Al-Resalah

PUBLISHING HOUSE

مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع

BEIRUT / LEBANON - TELEFAX : 815112 - 319039 - 603243 - P. O. BOX : 117460

4

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، الّذي علّم الإنسان ما لم يعلم، علّمه البيان، وأخرجه إلى عالم الحياة لا يعلم شيئاً، وجعل له السمع والبصر والفؤاد أدوات لاستقبال الحكمة، وتلقّي المعرفة، فاكتمل خلقه، واستوت آدميته، وأصبح جديراً برسالة الخلافة التي اختارته لها عناية الله تبارك وتعالى.

وأفضل الصلاة، وأزكى التسليم، على عبده ورسوله النبي الأمي، الذي أعلى بدعوته مكانة العلم، ورفع من منزلة العلماء، وجعل مداد أقلامهم يعدل دماء الشهداء في سبيل الله أجراً وثواباً، فصلوات الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين، وصحبه الغرّ المحجّلين، وأزواجه وذريّاته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد:

فإن الشرع الإسلامي يتكوّن من شقّين: عقيدة ثابتة الأصول، استقرّت قواعدها، وترسّخت أسسها في كتاب الله تعالى، وصحيح سنة نبيّه ﷺ، ولم يبق فيها زيادة لمستزيد، ولم تعد محلّ نظر ومراجعة، فهي باقية خالدة على الدهور.

والشقّ الثاني: أحكام عملية، وفروع متّصلة بواقع الحياة، وحوادثها المتجددة المتغيّرة، تبعاً لتغيّر ظروف الحياة، وأحوال الناس، والتي هي

5

بطبيعتها دائمة الحركة جرياً مع سنّة التطوّر. وهذا النوع يحتاج إلى أن توجّه إليه جهود العلماء، وتسخر له عقولهم وأقلامهم، لأن سلامته ومرونته، وصلاحيته وقوّته، هي البرهان العملي، والدليل الملموس على أن هذا الدين يعيش في أعماقنا عقيدة حيّة، وممارسات قويمة، وتصرّفات منسجمة مع المنهج الرباني في عباداتنا، وفي بيوتنا، ومتاجرنا، ومدارسنا، ومختلف مؤسّساتنا. وإلّا فما جدوى الإِيمان والاعتقاد إن لم ينعكس أثره على الشعائر التعبدية؟ وما قيمته إنْ لم يتجسّد في العلائق الأسرية؟ وما أهميته إنْ لم يترجم واقعاً حياً في المعاملات الماليّة؟ وما مغزاه إنْ كان في معزل عن الحياة السياسية بسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية؟ وما دوره إنْ لم يكن محركاً لروح الجهاد، والإِعداد، والمنعة ازاء أعداء الله في كل عصر وآن؟ لا ريب أن وجود الإِيمان كعدمه إن آل أمره إلى أن يفقد هذا الدور. هذا إن سلّمنا بوجوده أصلاً.

وما هذه الأمور التي نوّهنا إليها إلّا الفقه والتشريع الإسلامي، لذا، إذا أردنا لشريعتنا المنعة والقوة، وأخلصنا القصد في جعلها الحكم على الحياة، الفاعلة في أحداثها غير المنفعلة بها، كان لزاماً على علماء الأمة أن يولوا الفقه الإسلامي جلّ عنايتهم واهتمامهم. وإذا كان عقد الندوات والمؤتمرات، وإقامة المحافل والمجامع الفقهية التي تتصدى للجديد فتبين فيه حكم الله تعالى، وهو دور جليل، لا يمكن التقليل من أهميته، بل هو في رأس سلم أولويات العمل نظراً لما يصطبغ به من صبغة جماعية، وما تشهده ردهات تلك المحافل من محاورات ومناقشات تثري العقول والأفهام، فإن هذا لا يغني عن الكلمة المكتوبة التي تصل إلى أيدي الناس عالمهم وعامّيهم - لا سيما وأن دراسات المؤتمرات تبقى حكراً على المؤتمرين في الغالب -، لذا كان لزاماً على كل من آتاه الله حظاً من القدرة أن يدلي بدلوه في الكتابة في مجال الفقه، وقد يقول قائل، وماذا

6

عسانا نكتب وقد غطّت وشملت مؤلّفات علماء السلف الصالح كل جزئية في الفقه؟ ونقول: إن مجال خدمة الفقه كان ولا يزال وستبقى مشرع الأبواب ينتظر من يلجه، ويرحب بمن يشارك بأية إسهامة مهما تواضعت، لكي تبقى عملية رفد الأحكام الشرعية بالدماء الجديدة التي تمنحها العافية مستمرّة لا تتوقف. أجل لقد كتب فقهاؤنا في شتى أبواب الفقه، ولكنهم كتبوا لعصرهم، ولأهل زمانهم ومكانهم، أليس الشافعي رحمه الله تعالى قد غيّر فقهه تغييراً شبه كامل بين الحجاز مهبط الوحي من جهة وبين مصر من جهة أخرى، وكان لديه من الأسباب المقنعة، والدواعي الكافية ليقدم على هذه الخطوة، ولا هدف له إلَّا تحرّي الحق، وتقديم ما هو الصواب؟.

فالعالم في عصرنا يستطيع خدمة الفقه من خلال التصنيف في موضوعات الفقه التقليدية المألوفة كالصوم والزكاة والبيع والربا، ولكن بعد أن يراعي التجديد في عملية التبويب والتقسيم التي كانت تغيب عن الكتاب القديم، وبعد تخريج النصوص بصورة وافية مما كان أهل الأزمنة السالفة في غنى عنه، لوفرة علمهم به. وبعد أن يحذف المسائل الفرضية، أو القضايا التي غابت عن أرض الواقع كمسائل العبيد وما إليها، وبعد أن يقدّم الفقه بلغة سائغة سلسة تخلو من التعقيدات في الألفاظ والأساليب كما كان شأن الكتب القديمة. وبعد إضافة الجديد، وتطعيم الكتابة بالملاحظات المتصلة بالحاضر، والتنويه إلى الأخطاء التي شاعت في هذا المجال أو ذاك بعد أن ضعفت صلتنا بحضارتنا، ومصادر توجيهنا الصافية.

ويستطيع خدمة الفقه من خلال تناول المسائل المستجدة التي أفرزها الواقع سواءً كان ذلك في معاملات الأحوال الشخصية أو المعاملات المالية، أو الحدود والتقاضي ... والتقدم برأي واعٍ ومدروسٍ فيها،

7

لعلّه يكون ظهيراً لدراسات أخرى، ومعيناً للقاءات المؤتمرات، وعوناً للباحثين، ومعدّي الرسائل ...

وأخيراً يبقى جانب لا يقل عمّا تقدّم أهمية ألا وهو نفض الغبار عن فقهنا الذي لا يزال دفيناً، حبيس الخزائن والرّفوف في الأماكن المخصّصة للمخطوطات في شتى أرجاء العالم، ففي هذه الكنوز مادة غنية للبحث والدراسة، ولكم يحزّ في النفس أن تبقى الآلاف من هذه المصنفات تغيب عن الواقع، ويُحجبُ نفعها عن المسلمين.

ولقد أكرمني الله سبحانه وتعالى بأن وقفت على إحدى هذه المخطوطات في الفقه وهو كتاب ((تصحیح التنبيه)) للإمام العابد أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. ولقد كانت فرحتي بهذا العمل مزدوجة أولاً: لأن هذا الكتاب لعالم جليل أطبق معاصروه على جلالة قدره، وورعه، وتقواه، ولا أغالي إن قلت إنني لمست هذه الحقيقة بنفسي ممثلة في الإقبال الحماسي على دراسة هذا الكتاب دون كلل أو سآمة رغم الجهد الكبير والوقت الطويل الذي احتجت إليه كي أقوم بعملية تحقيقه. وثانياً: لأن طبيعة الموضوع فريدة فهي تركز على عامل الترجيح والتصحيح وبيان الراجح المعتمد من الأقوال في المذهب الشافعي، بحيث يكون هذا الكتاب كما أراده مؤلفه يمثّل بحق المذهب الشافعي بعد ضمّه إلى كتاب ((التنبيه)) لأبي إسحاق الشيرازي.

وبعد، فلقد استغرقت وسعي في إخراج هذا الكتاب على أفضل صورة، وأكمل وجه، ولما كان الضعف البشري مدعاة لحدوث الخلل، ووقوع الهنات، فأسأل الله تعالى العفو والمغفرة، وأدعوه مخلصاً أن يرزقنا القبول لأعمالنا، والإِخلاص لنوايانا فهو نعم المولى والنصير.

والحمد لله رب العالمين

8

فصل تمهيدي

ويشتمل على المباحث التالية :-

المبحث الأول: حياة الإمام النووي:

وتحتها المطالب التالية:

المطلب الأول: اسمه ونسبه ولقبه.

المطلب الثاني: مولده ونشأته واشتغاله بالعلم.

المطلب الثالث: عصر الإِمام النووي.

المطلب الرابع: شيوخه وتلاميذه.

المطلب الخامس: مصنّفاته.

المطلب السادس: صفاته الخَلْقية والخُلُقية.

المطلب السابع: وفاته.

المبحث الثاني:

تحقيق نسبة الكتاب إلى مصنّفه.

المبحث الثالث:

النسخ التي اعتمدت عليها في التحقيق.

المبحث الرابع:

أهميّة الكتاب ومنهجه: وفيه مطالب:

المطلب الأول: أهميّة الكتاب.

المطلب الثاني: منهج المصنف في كتابه.

المبحث الخامس:

عمل الباحث في التحقيق: وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في الجانب الشكلي.

المطلب الثاني: في الجانب الجوهري.

9

-

10

المبحث الأول

حَيَاة الإمَام النووي

ويمكن دراسة حياة الإِمام في إطار المطالب التالية:

المطلب الأول: اسمه ونسبه ولقبه:

هو الإِمام يحيى بن شرف بن مرّی - بضم الميم وكسر الراء - ابن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام، أبو زكريا محيي الدين الحزامي النووي الدمشقي. والحزامي: نسبه إلى جدّه حزام، وكان بعض أجداد الشيخ يزعم أن الحزامي نسبة إلى الصحابي الجليل حكيم بن حزام رضي الله عنه. إلّ أنّ الإِمام النووي لم يقبل هذه الدعوى، ونفى هذا القول، وقال: هو غلط. أما النووي - بحذف الألف بين الواوين، ويجوز إثباتها فيقال: النواوي. قال السخاوي: وبإثباتها وحذفها قرأته بخط الشيخ، لكن قال الشهاب ابن الهائم: إنه بإثباتها خلاف القياس - نسبة إلى نوى، ج، نواة التمر وغيرها، وهي قاعدة الجولان من أرض حوران، وقيل هي قصبتها، بينها وبين دمشق منزلان - مسافة يومين -. والدمشقي: نسبة إلى دمشق، ونسب إليها لأنه أقام بها نحواً من ثمانية وعشرين سنة. وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: من أقام ببلد أربع سنين نسب إليها(١).

(١) المنهاج السوي في ترجمة الإمام النووي - للإِمام جلال الدين السيوطي - ميكروفيلم رقم ٤٢٢٢ - مكتبة الجامعة الأردنية. ترجمة - الإمام النووي - تصنيف =

11

كان أبوه دكّانياً بنوى. وقال الذهبي: إنه كان شيخاً مباركاً (١).

أما لقبه فهو ((محيي الدين)). وكان يكره أن يلقّب به تواضعاً لله تعالى، ولأن الدين حيّ ثابت دائم، غير محتاج إلى من يحييه، وصحّ عنه أنه قال: لا أجعل في حلٍّ من لقبني بـ ((محيي الدين))(٢).

المطلب الثاني: مولده، ونشأته، واشتغاله بالعلم:

كان مولده في المحرّم، في العشر الأوسط منه على المعتمد كما قال السخاوي. وقال جمال الدين الإسنوي في العشر الأول، سنة إحدى وثلاثين وستمائة للهجرة(٣).

أما عن نشأته: فقد نشأ الإمام النووي نشأة صالحة - في ستروخير، كما قال الذهبي -، وكانت تبدو عليه منذ نعومة أظفاره مخايل الجدّ والنجابة والإقبال على الله سبحانه وتعالى. ولعلّ في الحوادث التالية ما يدلّ بجلاء على هذه الحقيقة: روى تلميذه ابن العطّار أن والده ذكر له الحادثة التالية قال: لما بلغ - النووي - سبع سنين، كان نائماً ليلة السابع والعشرين من رمضان بجانب أبيه، فقال والده: إنه انتبه نحو منتصف الليل. وأيقظه،

= الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي - مذكرة مصورة نشر الجماعة الإسلامية - دار العلوم ص٣، تحفة الطالبين في ترجمة شيخنا الإمام النووي - تصنيف تلميذه الشيخ الإمام علي بن إبراهيم بن داود ابن العطار- مخطوط مصور ص٢-٣، طبقات الشافعية - لجمال الدين الإسنوي جـ٢، ص٤٧٦، الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين النووية - للشبرخيتى ص٢، معجم البلدان - لياقوت الحموي جـ٣٥٤-٣٥٦، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي جـ٧ ص٢٨٧، الكنى والألقاب جـ٣ ص٢٧٢، ترجمة حياة الإمام النووي للشيخ عبد الغني الدقر ص١٧-١٩.

(١) ترجمة شيخ الإسلام للسخاوي ص٤.

(٢) ترجمة شيخ الإسلام للسخاوي، وقد نسب هذا القول عنه إلى اللخمي ص٤.

(٣) المراجع السابقة.

12

وقال له: يا أبتي، ما هذا الضوء الذي قد ملأ الدّار، فاستيقظ أهله جميعاً، فلم نر كلنا شيئاً، فقال والده: فعرفت أنها ليلة القدر.

وذكر الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي قال: رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى، والصبيان يُكْرهونه على اللّعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي لإِكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال. قال: فوقع في قلبي محبته، وكان قد سجله أبوه في دكّان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت معلّمه، فوصّیته به، وقلت له: إنه یرجی أن یکون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به. فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا: وإنّما أنطقني الله بذلك. فذكر المعلم ذلك لوالده، فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحلم(١).

أما عن اشتغاله في العلم واجتهاده في طلبه وتحصيله:

فلقد كان متوقعاً في ظل هذه النشأة الكريمة، وبناءً على ما رزقه الله من نقاء، وإقبال على كتابه، أن يتوجّه إلى العلم وطلبه في سنِّ مبكّرة. وهكذا كان. يقول عن نفسه: فلما كان عمرهُ تسع عشرة سنة قدم به والدهُ في سنة تسع وأربعين إلى دمشق، فسكن في المدرسة الرواحية، ولم ينتقل منها، وقيل إنه اختار الإقامة فيها لحلها، وبقي نحو سنتين لا يضع جانبه على الأرض، ويتقوّت بجراية المدرسة لا غير، بل كان يتصدَّق منها أيضاً. ثم ترك تعاطيها. وقد حفظ ((التنبيه)) في أربعة أشهر ونصف، وأتقن ربع ((المهذب)) حفظاً في بقيّة السنة ... ربع العبادات.

وكان يشرح ويصحّح على شيخه أبي إبراهيم إسحق بن أحمد المغربي، ولازمه فأعجب به لما رأى من ملازمته له، وعدم اختلاطه

(١) كتاب: ترجمة شيخ الإسلام للسخاوي ص٥، تحفة الطالبين لابن العطار ص٤، الفتوحات الوهبية - الشبرخيتي - ص٣، المنهاج السوي في ترجمة محي الدين النووي - میکرو فيلم.

13

بالناس، وأحبه محبة شديدة، وكان يعيد الدرس بحلقته، لأكثر الجماعة.

ولما كانت سنة إحدى وخمسين حجّ مع والده، وارتحلا من أول رجب، فحصلت له الإقامة بالمدينة المنورة شهراً ونصفاً تقريباً. وكانت الوقفة تلك السّنة يوم الجمعة، وفي هذا السفر أصابته الحمى، فلم تفارقه إلّا يوم عرفة، وهو صابر لم يتأوه قط. فلما عاد من حجته إلى دمشق صبّ الله عليه العلم صبّاً، ولم يزل يشتغل بالعلم، ويقتفي آثار شيخه. - المغربي - في العبادة من صلاة، وصيام، وزهد، وورع، وعدم إضاعة شيء من أوقاته، لا سيما بعد وفاة شيخه، فإنه أصبح يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً: درسين في ((الوسيط))، وثالثاً في ((المهذب))، ودرساً في الجمع بين الصحيحين، ودرساً في ((صحيح مسلم)) ودرساً في ((إصلاح المنطق)) لابن السكّيت في اللغة، ودروساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه: تارة في ((اللّمع)) ((لأبي إسحاق الشيرازي)) وتارة في ((المنتخب)) ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، وكان يعلّق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، وإيضاح عبارة، وضبط لغة. فقال: وبارك الله لي في وقتي، واشتغالي وأعانني عليه(١).

قال ابن العطار: ذكر لي شيخنا أنه كان لا يضيع له وقتاً، لا في ليل، ولا في نهار، حتى في الطريق، وأنه دام على هذا ست سنين ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق(٢).

وقال الذهبي: لزم الاشتغال بالعلم نحو عشرين سنة حتى فاق الأقران، وتقدم على جميع الطلبة، وحاز قصب السبق في العلم والعمل،

(١) ترجمة شيخ الإسلام للسخاوي ص٥-٦، تذكرة الحفاظ - الذهبي جـ٤، ص١٤٧ وما بعدها، طبقات الشافعية ٣٩٧/٨، تحفة الطالب لابن العطار ص٤.

(٢) المنهاج السوي في ترجمة الإمام النووي - الإمام السيوطي - ميكروفيلم، ترجمة شيخ الإسلام للسخاوي ص١١، تحفة الطالبين لابن العطار ص٩.

14

ثم أخذ في التصنيف في حدود سنة ٦٦٠هـ إلى أن مات.

ولي مشيخة دار الحديث بعد الشيخ أبي شامة، وكان لا يتناول من معلومها شيئاً(١).

وجاء في مقدمة كتاب متن الأربعين النووية: أصبح في عام ٦٦٥هـ شيخاً لمدرسة دار الحديث، ومدرساً فيها(٢).

وقال السيوطي: كان الإِمام حافظاً للحديث، عارفاً بأنواعه كلّها، وغريبه ومعانيه، واستنباط فقهه، حافظاً لمذهب الشافعي وقواعده، وأصوله وفروعه، ومذاهب الصحابة والتابعين واختلاف العلماء ووفاقهم وإجماعهم، سالكاً طريق السالك، قد صرف أوقاته كلها في الخير، فبعضها للتأليف، وبعضها للتعليم، وبعضها للصلاة، وبعضها بالتلاوة والتدبر. وبعضها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ونوزع في النقل عن ((الوسيط))، فقال: أتنازعوني وقد طالعته ٤٠٠ مرة. وكان مع سعة علمه عديم النظير، لا يرى الجدال، ولا تعجبه المبالغة في الحديث، ويتأذى ممن يجادل، وكان لا يتعانى لغط الفقهاء، بل يتكلم بتؤدة ووقار، ولذلك كان قلمه أبسط من عبارته(٣).

أما وقد عرفنا عن الإمام النووي رحمه الله تعالی تفانيه في البحث عن العلم، وإنفاق الکثیر من وقته في تحصیله ومدارسته، وتعلیمه، لذا كان من الطبيعي أن نلمس ثمرة هذا كله في علم غزير، وعطاء وفير في شتى مجالات علوم الشرع ومختلف أبوابها، فكان الفقيه، والمحدّث، واللغويّ، والأصوليّ، والباحث في العقائد(٤).

(١) شذرات الذهب في أخبار من ذهب - ابن العماد الحنبلي جـ٥ ص٣٥٤.

(٢) مقدمة متن الأربعين النووية - محيي الدين مستو - ص٧.

(٣) المنهاج السوي - للسيوطي، ترجمة شيخ الإسلام - للسخاوي ص٣٦.

(٤) تحفة الطالب لابن العطار ص٨.

15

ففي مجال الفقه سبق أن ذكرنا أنه قد قرأ ((التنبيه)) وحفظه، وحفظ أجزاء من ((المهذب)) وأنه قد قرأ ((الوسيط)) عشرات المرات، وغير ذلك مما انعكس أثره في مؤلفاته القيمة ومصنفاته الفريدة التي سنأتي على ذكرها.

وفي مجال الحديث: سمع النووي الكتب الستة: البخاري، ومسلم، أبي داود، والترمذي، والنسائي، وموطأ مالك، ومسند الشافعي، ومسند أحمد بن حنبل، والدارمي، وأبي عوانة، الإِسفراييني، وسنن ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وشرح السنّة للبغوي.

وكان همّ النووي في الحديث، فقه الحديث، بعد التأكد من سنده ورجاله وصحته، وقلما اجتمع في عالم فقه وحديث. وفي مجال اللّغة كان يرى أنه لا يفقه أحد الكتاب والسنة، ولا يقوى على فهمها، والاستنباط منهما، ويستوعب عبارات أئمة الدين من المتقدمين والمتأخرين حتى يتقن العربية: نحوها، وصرفها، واشتقاقها، ومعاني مفرداتها، وكان الإِمام نحوياً وصرفياً ولغوياً محققاً.

أما مذهبه في العقائد، فليس للإِمام شيخ مخصوص في علم التوحيد، وفي كتابه ((شرح صحيح مسلم)) الكثير من العقائد على أصول أهل السنة، وهو سلفيّ العقيدة، ويؤول أحياناً على طريقة المتأخرين.

صرّح اليافعيّ والتاج السبكيّ: أنّه أشعري. وقال الذهبي في تاريخه: إن مذهبه في الصفات السمعية السكوت وإقرارها كما جاءت، وقيل له مؤلّف في التوحيد، وهي رسالة سمّاها ((المقاصد))(١).

المطلب الثالث: عصر الإِمام النووي :

أولاً: من الناحية السياسية: عاش الإِمام النووي آخر عصر الأيوبيين،

(١) الإمام النووي - الدقر ص٥٨ -٦١، ترجمة شيخ الإسلام - السخاوي ص٣٦.

16

وجميع عصر الملك الظاهر بيبرس ، وامتازت الفترة التي عاش فيها بنوع من الاستقرار، ولكنها مع ذلك كانت فترة عصيبة، حيث تظاهر فيها على غزو بلاد الشام الصليبيّون والتّتار. ولولا أن قيّض الله سبحانه وتعالى نور الدين وصلاح الدين من قبل، ثم الملك الظاهر، فكسر شوكتهم، وأوقع الهزيمة فيهم، لكانت حال بلاد الشام في غاية التردّي. لا ريب أن بلاد الشام قد تمتعت في عصر النووي بقسط من الاستقرار، والاطمئنان النسبي، ولكنه يبقى عهداً ميموناً مباركاً إذا ما قيس بما قبله وبما تلاه من العهود.

ثانياً: من الناحية العلمية : عاش في القرنين السابع والثامن للهجرة الذين يعتبران من أزهى عصور الإِسلام نظراً لما حفلا به من عدد وافر من العلماء الأفذاذ الذين خلّفوا من المؤلفات والإنتاج العلمي كل ما هو ناضج ومفيد، ومن العلماء الذين عاصروا الإِمام النووي، وكانوا من أقرانه الذين يستحقون اعتبارهم بحق أقراناً يعكسون الصورة الصادقة للحركة العلمية في هذا العصر: الإِمام أبو القاسم عبد الكريم الرافعي، كبير فقهاء الشافعية في قزوين، وابن المعلّم، شيخ الحنفية في زمانه، وابن الفركاح الفزاري شيخ النووي، وغيرهم كثير في ميدان العلوم الشرعية. أما في علوم العربية فقد عاصره من العلماء الأجلاء ابن يعيش شارح المفصل للزمخشري، وتلميذه ابن مالك، وابن القفطي، وكانوا بحق من مفاخر هذا القرن.

وفي ميدان العلوم التاريخية والتراجم برع ابن خلكان صاحب ((وفيات الأعيان))، وياقوت الحموي، وأبو شامة، صاحب كتاب ((الروضتين)). وبرع في التصوف في عصره ((ابن عربي الأندلسي صاحب كتاب «الفتوحات المکیة))، وغيرهم کثیر.

وبكلمة موجزة يمكن القول بأن عصر النووي، إن لم يعتبر عصر إبداع

17

كعصور الاجتهاد، فهو بجملته وأكثر علويه عصر نقل مّزن، وتقليد واعٍ، وجمع في تحفظ، وتحقيق، وتحرير، وتصحيح، وتهذيب، بل أحياناً، اجتهاد مقيّد حر(١).

المطلب الرابع: شيوخ النووي وتلاميذه:

أولاً: شيوخه: تلقى النووي العلم في مختلف مجالاته على يد علماء متمكنين، ذوي قدم راسخ في علمهم.

١ - في الفقه:

أول شيوخه في الفقه كما قال رحمه الله: الإِمام المتفق على علمه، وزهده، وورعه، وكثرة عبادته، وعظم فضله: أبو إبراهيم، إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي ثم المقدسي، وكان معظم انتفاعه به: ثم بالإمام العارف الزاهد الورع المتقن مفتي دمشق في وقته: أبو أحمد عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي ثم الدمشقي. ثم الإِمام المتفق على إتقانه المفتي أبو جعفر عمر بن أسعد بن أبي غالب الرَّتبعي - بفتح الراء والباء - الأربلي. قال ابن العطار: ثم الإِمام العالم المجمع على إمامته وجلاله، وتقديمه في علم المذهب على أهل عصره بهذه النواحي أبو الحسن سلّارْبن الحسن الأربلي ثم الحلبي ثم الدمشقي.

وأوّل مقدمه دمشق اجتمع بالشيخ جمال الدين عبد الكافي، وعرف رحمه الله مقصده، فأخذه وتوجه به إلى حلقة الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن ضياء الفزاري المعروف بابن الفركاح، فقرأ عليه دروساً، وبقي يلازمه مدة.

(١) الإمام النووي ۔ الدقر ص٨

18

٢ - شيوخه في الحديث:

أخذ فقه الحديث عن الشيخ المحقق أبي إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي الشافعي، شرح عليه صحيح مسلم، ومعظم البخاري وجملة مستكثرة من الجمع بين الصحيحين للحميدي. وقرأ على الشيخ الحافظ أبي البقاء خالد بن يوسف بن سعد النابلسي، ((الكمال في أسماء الرجال)) للحافظ عبد الغني المقدسي، وعلق عليه حواشي، وضبط عليه أشياء حسنة. ولازم الإِمام المحدث الكبير الضياء بن تمام الحنفي في سماع الحديث، وما يتعلق به، وعليه تخرّج، وبه انتفع. وأخذ عن جماعة من أصحاب الحافظ أبي عمرو بن الصلاح علوم الحديث له.

وسمع الحديث على أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي، وأبي العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي، وأبي محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر التنوخي، والضياء بن تمام الحنفي، وأبي محمد بن عبد الرحمن بن سالم بن يحيى الأنباري.

٣ - شيوخه في الأصول:

قرأ على العلامة القاضي أبي الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي التفليسي الشافعي ((المنتخب)) للفخر الرازي، وقطعة من ((المستصفى)) للغزالي، وقرأ غيرهما من الكتب على غيره.

٤ - شيوخه في اللغة والنحو والتصريف:

قرأ على الشيخ أبي العباس أحمد بن سالم المصري النحوي اللغوي التصريفي ((إصلاح المنطق)) لابن السكّيت بحثاً. وكان يأخذ درساً إما من كتاب سيبويه، وإما من غيره، وقرأ على العلامة الجمال أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك كتاباً من تصانيفه. وقرأ على الفخر المالكي

19

اللمع لابن جني (١).

وكان الإِمام - كما ذكر السيوطي في المنهاج السوي - يتأدب كثيراً مع شيخه إسحاق المغربي، ويملأ له الإِبريق، ويحمله معه إلى الطهارة(٢).

ثانياً: تلاميذه:

قال السيوطي: وسمع منه خلق كثير من العلماء والحفاظ والصدور والرؤساء(٣). وكان من بينهم: علاء الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن داود الدمشقي المعروف بابن العطار، والذي كان يسمى بمختصر النووي، لشدة ملازمته له وتحققه به(٤). وقال الذهبي: وتخرّج به جماعة من العلماء منهم الخطيب صدر الدين سليمان الجعفري، وشهاب الدين أحمد بن جعوان، وشهاب الدين الإِربدي، وعلاء الدين بن العطار، وحدّث عنه أبي الفتح والمزني وغيرهم . .. ))(٥).

ومنهم كذلك: أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مصعب، والمحدث أبو العباس أحمد بن فرح الإِشبيلي، والرشيد إسماعيل بن المعلم الحنفي، وأبو العباس أحمد الضرير الواسطي، وإسماعيل بن إبراهيم الواسطي، والشيخ الناسك جبريل الكردي، والأمين سالم بن أبي المدر، والفقيه الأديب سلطان إمام الروحانية. والقاضي جمال الدين سليمان بن عمر بن سالم الدرعي، وأبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن عبد

(١) هذه الأسماء أشارت إليها أغلب المراجع التي اعتمدت في دراسة حياة النووي. واتبع في ترتيبها كتاب النووي لعبد الغني الدقر.

(٢)، (٣) ترجمة شيخ الإسلام - للسخاوي ٧-١٢، تحفة الطالب ص٦، المنهاج السوي - للسيوطي ، ميكروفيلم.

(٤) النووي للدقر ص٧٣-٧٤. والمراجع السابقة.

(٥) تذكرة الحفاظ للذهبي جـ٤، طبعة ٤، ص ١٤٧ وما بعدها.

20