وقد عد الفقهاء وأهل الفتيا أكثر آراء المتصوفة بدعا في الدين يجب الرد عليها ودحضها، وقد انبرى لهذه المهمة كثير من الفقهاء والقضاة للرد على مقالات الصوفية، فحملوا عليها حملات شعواء بالنكير سائر ما وقع لهم في طريقتهم، وقد رد عليهم ابن خلدون في مقدمته؛ وفصل القول في ذلك في أربعة موضوعات وهي: الكلام على المجاهدات، والكلام في الكشف، والتصرفات في العالم والأكوان، والألفاظ المشكلة. فتناول ابن خلدون كلا من هذه الموضوعات وناقشها ورد على الفقهاء.
وذكر الغزالي في كتاب الإحياء كثيرا من البراهين الشرعية على صحة طريق أهل التصوف في اكتساب معارفهم عن طريق الإلهام؛ إذ قال: «إن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفا بصحة الطريق، ومن لم يدرك ذلك بنفسه قط ينبغي أن يؤمن به؛ فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جدا، ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات.» ويسوق الغزالي هذه الشواهد الشرعية والتجريبية والقصصية بما تراه مفصلا في كتابه، من ذلك تعرف أن روح الدين الإسلامي لم يكن ضد المتصوفة في جهادهم وزهدهم ومحاسبتهم النفس، ولم يكن خصما لهم في مشاهداتهم وإدراكهم.
أما بروكلمن المستشرق الألماني فقد قسم المتصوفة في كتابه «أدب اللغة العربية» إلى عشرين طبقة مراعيا في ذلك التقسيم الزماني والمكاني، وذكر في كل طبقة جميع التابعين لها ناصا على عدد مؤلفات كل متصوف مع بيان المطبوع والمخطوط وأماكن وجودها.
وتبدأ الطبقة الأولى من منتصف القرن الثاني الهجري إلى ابتداء القرن الخامس، وقد ذكر في هذه الطبقة أحد عشر صوفيا، وتبدأ الطبقة العشرون وهي آخر الطبقات من أوائل القرن الثالث عشر إلى الوقت الحاضر وهم متصوفة مصر وعددهم ستة.
أول المتصوفة من الطبقة الأولى هو الحارث بن سعد المحاسبي البصري ويكنى أبا عبد الله، وهو أول شخص عرف من المتصوفين الذين نسجوا على منوال التصوف المسيحي.
كان شديد الزهد والورع، وعرف بالمحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه، اجتمع له علم الظاهر والباطن فكان خاضعا لربه ملازما على الدوام لمجاهدة النفس ورياضتها والزهد في ملاذ الحياة الدنيا، ومن زهده أنه ورث من أبيه ألف درهم فلم يأخذ منها شيئا؛ لأن أباه كان قدريا، فرأى من الورع ألا يأخذ ميراثه، وقد مات وهو محتاج إلى درهم.
وما يؤثر عنه أنه كان إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك على أصبعه عرق فيمتنع عنه.
أما مؤلفاته فمنها: (1) مقاصد الرعاية: وهو كتاب في المبادئ التي يجب على المتصوفة اتباعها. (2) رسالة في الفضائل العشر الموصلة إلى السعادة. (3) شرح المعارف وبذل النصيحة. (4) رسالة في الأخلاق.
ومن تمام المعرفة بالذات الإلهية - أي بالله - تمام إنكار الذات، وهي الحالة التي يعبر عنها بالفناء، وهو على ثلاثة درجات: (1) فناء أهل العلم المتحققين به. (2) فناء أهل السلوك والإرادة. (3) فناء أهل المعرفة المستغرقين في شهود الحق. فأول الأمر أن تفنى قوة علمه وشعوره بالمخلوقين في جنب علمه ومعرفته بالله وحقوقه، ثم يقوى ذلك حتى يغيب عنهم، بحيث يكلم ولا يسمع، ويمر به ولا يرى، وذلك أبلغ من حال السكر، ولكن هذه الحال لا تدوم هكذا. وفناء أهل المعرفة على ثلاث درجات: (1) فناء المعرفة في المعروف ، وهو الفناء علما. (2) فناء العيان في المعاين، وهو الفناء جسدا. (3) فناء الطلب في الوجود، وهو الفناء حقا. فالأول وهو غيبة العارف بمعروفه عن شعوره بمعرفته ومعانيها، فيفنى به سبحانه وتعالى عن وصفه هنا وما قام به؛ فإن المعرفة فعله ووصفه، فإذا استغرق في شهود المعروف فني عن صفة نفسه وفعلها. ولما كانت المعرفة فوق العلم وأخص به كان فناء المعرفة في المعروف مستلزما لفناء العلم في المعرفة، فيفنى أولا ثم تفنى المعرفة في المعروف. والثاني هو فناء العيان في المعاين، فالعيان فوق المعرفة، فإن المعرفة مرتبة فوق العلم ودون العيان، فإذا انتقل من المعرفة إلى العيان فني عيانه في معاينته كما فنيت معرفته في معروفه. والثالث وهو فناء الطلب في الوجود، فهو أن لا يبقى لصاحب هذا الفناء طلب؛ لأنه ظفر بالمطلوب المشاهد، وصار واجدا بعد أن كان طالبا، فكان إدراكه أولا علما، ثم قوي فصار معرفة، ثم قوي فصار عيانا، ثم تمكن فصار وجودا.
2
Неизвестная страница