التصوف والمحبة
كانت هجرة الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى المدينة وتعبده في غار حراء أولى مراحل التصوف الإسلامي، وهنا ينبغي أن نبين أن هناك هجرة إلى الله وهجرة إلى الرسول، فقد قال تعالى في كتابه العزيز:
ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ، وفي هذا المعنى ألف الإمام ابن قيم الجوزية المتوفى عام 751ه كتابا جعل عنوانه «طريق الهجرتين وباب السعادتين»، بين فيه أن للعبد في كل وقت هجرتين: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه والافتقار في كل نفس إليه، وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه.
ولابن القيم كتب أخرى كثيرة، غير أن هذا أفضلها، لأنه يصور رأيه فيما يجب أن يكون عليه سلوك الإنسان في هذه الدنيا، وفي صلة المخلوق بالخالق من الفقر إليه والغنى به وفي الخير والشر، وكيف يكون الخير من الله والشر من أنفسنا، وفي القضاء والقدر وفي نفاة التعليل والحكمة والأسباب، وفي الإرادة الإنسانية والمحبة، وهذه كلها مسائل دقيقة خطيرة شغلت بال المسلمين منذ فجر الإسلام، وهي شاغلة لأفكار المؤمنين بوجود الله من أصحاب الأديان، بل هي شاغلة لأذهان الكفار والمشركين ما دام المجتمع الإنساني فيه الخير والشر والعدل والظلم.
ولقد حاول الفلاسفة والمتكلمون والصوفية حل هذه المشكلات، كل فرقة حسب منهجها ومذهبها فاختلفوا في ذلك اختلافا كبيرا، وخيل إلى أصحاب هذه المذاهب أنهم ملكوا عنان البيان واختصوا بالمنطق والبرهان، فسموا أنفسهم الخاصة وسائر أفراد المسلمين دهماء وعوام، وأطلقوا على الجمهور أهل السنة، والإسلام الصحيح لا يعرف خاصة وعامة أو أرستقراطية فكرية واجتماعية.
1
وقد تصدى من أهل السنة في كل عصر رجال يجادلون الفلاسفة والمتكلمين والصوفية، ولكن أبرزهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، ومثلهما في تاريخ الإسلام مثل سقراط وتلميذه أفلاطون في تاريخ الفلسفة كلاهما لا ينفصل عن صاحبه.
أما أول مسألة يحسن تقريرها في هذا الصدد فهي علة احتياج العالم إلى الله، وقد بادر ابن القيم بعد خطبة الكتاب بنفي مقالة الفلاسفة والمتكلمين وإثبات دليل آخر غير دليليهما، فقال: ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله تعالى أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته.
Неизвестная страница