ولم يطل بها الانتظار؛ فسرعان ما طرق النافذة ذلك الطارق ... ورأت زوجها يتسمع في اهتمام بالغ، حين انتهت الطرقات الثلاث ظل لحظات طوال يتسمع، فلم يصل إلى أذنيه إلا أصوات أقدام تبرح النافذة.
ورأت الدم يعلو وجهه، حتى أصبحت عيناه وكأنهما جمرتان ملتهبتان. وحين قاما إلى النوم أحست به طوال الليل والفراش يقلبه لا يقر له قرار، حتى نفذت إلى الحجرة خيوط الشمس الأولى، فإذا زوجها منتصب على قدميه، ودون أن يتناول إفطاره كان قد ترك البيت، وقصد إلى مجلسه في الدوار.
وما أن استقرت به الجلسة، حتى وافاه خطاب، وروى عليه ما حدث، وقبل أن يتم الحديث يصعد الدرجات القلائل كدواني خائفا يتكفى، ودون تحية يصيح: البهائم معي في الخارج يا حضرة العمدة.
وينظر إليه زين مليا ... ماذا يمكن أن يحدث لو أنه أخذ هذه البهائم؟ إن المجرم حين يحيط به التهديد يصبح أشد الناس خوفا وهلعا. كيف أضع هذه البهائم في بيتي؟ إن قوما صنعوا ما صنع هؤلاء بالأمس لا يقف دونهم شيء. هيهات أن يكونوا خمسة أو عشرة، بل لا بد أن وراءهم مددا عتيدا. وما أظنهم بالذين يغضبون من أجل كدواني، ويبذلون كل هذا الجهد الذي بذلوه لمجرد المحافظة على بهائمه، فما كدواني بالنسبة إليهم إلا فرصة اهتبلوها ليعلنوا لي عن وجودهم.
ويطرق زين ويطيل الإطراق، ثم يرفع رأسه إلى كدواني: ارجع إلى بيتك، وخذ بهائمك معك يا كدواني. - أنا لا شأن لي بما حدث يا حضرة العمدة. والله على ما أقول شهيد. - أعلم يا كدواني. - البهائم في ستين داهية. أولادي يا حضرة العمدة. - كدواني تأكد أنني أعرف أنك لا شأن لك بما حدث، وخذ مني كلمة رجل: إنني لن أمسك بما يؤذيك. - أطال الله عمرك يا حضرة العمدة! - مع السلامة يا كدواني.
وقام كدواني وهم بنزول السلالم، ثم توقف فجأة والتفت إلى العمدة مرة أخرى: ألا أترك البهائم يا حضرة العمدة؟ - بل تأخذها معك كما أحضرتها. - أمرك.
والتفت إلى السلم، ثم توقف واستدار ثالثة إلى العمدة: وإذا جاء لي فيها مشتر يا حضرة العمدة؟
وأدرك العمدة أنه يساوم على الإتاوة، ولكن زين لم يكن في حالة تسمح له بالمفاوضة الآن ... وأين سيذهب مني كدواني؟ فليبع البهائم، وإذا انتهيت من هذه البلوى التي ظهرت لي على آخر الزمن، فإن يدي تستطيع أن تعتصر منه عشرة آلاف لا خمسة ... قال زين في حسم: إذا أردت أن تبيع البهائم، فبعها يا كدواني. - و... - وحين أريد المبلغ سأقول لك ... أبق الثمن كله عندك الآن. - أمرك يا حضرة العمدة، وأين سيذهب المبلغ؟ إنه عندي تحت أمرك، أحضره عندما تشاء، أمرك يا حضرة العمدة.
وانصرف كدواني، وأمر العمدة خطاب أن ينصرف هو أيضا، وخلا به المكان. كيف عرفوا بالموعد الذي حددته لكدواني؟ أهي صدفة أم أن لهم علي عيونا راصدة؟ وكيف لي أن أعرف؟ بل لا بد لي أن أعرف، وما الذي جعلهم يعيدون البهائم إلى صاحبها؟ من هؤلاء؟ ما شأنهم؟ •••
اندلع الخبر في القرية في كل نواحيها وتناقلته الألسنة والقلوب والوجوه والفرحة تشيع في كيانهم كله.
Неизвестная страница