2
عاشت رتيبة أم سامي عيشة هانئة في بيت العمدة قريبة غاية القرب من زوجته حميدة، وكانت عزيزة في البيت هي مديرته التي تقوم بكل شأنه. وسرعان ما أصحبت الأم وابنتها صديقتين لأهل القرية جميعا، وقد اتفقت الأم وابنتها أن ينتسبا إلى قرية المهاجرة، التي تدخل في إطار محافظة المنيا البعيدة كل البعد عن محافظة أسوان. ولم يحاول أحد من نساء القرية ولا من رجالها أن يستقصي أمرهما، فما دار بذهن أحد أنهما تكذبان. واستقر الحال على هذا ومضت الأيام رخاء. رتيبة ترضع وليدها، وحميدة ربة البيت تقربها إليها في حب وحدب وعطف، وهما تقضيان وقتهما في أحاديث لا تنفد، وتمدهما سيدات القرية بمدد من أسباب الحديث لا ينقطع.
والعمدة أصبح لا يرى زوجته إلا وفي رفقتها رتيبة، ولم تستطع رتيبة أن تغفل النظرات الراغبة التي كانت تطل في إصرار من عيني العمدة زين الرفاعي. وكان كيانها يضطرب أشد الاضطراب حين تلح عليها هذه النظرات، فقد كانت تخشى كل الخشية أن يتجاوز العمدة النظرات التي تصدر عنه على رغم أنفه إلى محاولات أخرى تفسد عليها هذه الحياة الهانئة التي تحياها، والتي لم تكن تتمنى خيرا منها. وماذا يمكن أن تأمل أم ابنها مهدد بالثأر أكثر من هذه الحياة التي تحياها مع ابنها وابنتها في ظلال كريمة من عطف الست حميدة. وقد كانت رتيبة تحمل لها مع الاعتراف بالفضل حبا لا ينتهي مداه، فقد كانت أخلاق حميدة رضية سلسلة لا عنف بها ولا كبر. وكانت طيبة عن سجية مواتية في غير افتعال ولا من. وقد أحبت سامي حب أم لوليدها حقا، وكانت رتيبة من الذكاء والفطنة بحيث لم تذكرها قط بأن سامي ربيبها وليس وليدها. ولم يجر هذا على لسانها، حتى ولو كانتا في مأمن كامل من العيون والآذان.
وكانت رتيبة تحرص دائما أن تضع الطفل في حجر أمه في غير أوقات الرضاع، آملة أن يعمق احتضان حميدة له مشاعر الأمومة الفطرية التي لم تعرفها حميدة؛ فهي لم تكن له أما. فلا هي حملته، ولا ولدته، ولا أرضعته، وهي مع ذلك هي أمام العالم أجمع أمه.
ومع الأيام أوشكت حميدة أن تنسى أنها ليست أمه، بل وأوشك زين الرفاعي أن ينسى أنه ليس أباه. لم يكن ينغص حياة رتيبة إلا هذه النظرات الهاربة من عيني العمدة، والتي كانت تتقيها بالتجاهل التام. وكان ينغصها أيضا ما تقوله لها النسوة إذا جلسن إليها بعيدا عن حميدة؛ فقد عرفت رتيبة أن العمدة ظالم جبار، جشع غاية الجشع في معاملته للناس، نهاز للفرص في جمع المال. وكانت رتيبة تدهش مما يفعله العمدة. أيكون جميع المال غاية في ذاته؟! لمن يجمعه؟! لطفل هو يعلم حق العلم أنه ليس ابنه، ولا هو أباه؟ كاذب ذلك الذي يقول إن الإنسان يحرص على المال من أجل أبنائه. إنما هو النهم في جمع المال، مرض قائم بذاته يصيب الإنسان فيخرب نفسه، حتى وإن لم يكن له ولد. وما الولد عند هؤلاء إلا حجة منهارة لا صحة لها. وإن جازت هذه الكذبة على الناس الذي يشهدون سعادة زين الرفاعي في جمع المال، فما كانت هذه الكذبة لتجوز على رتيبة التي ولدت سامي، والتي تعرف من سره ما لا يعرفه في القرية أحد. •••
كانت حجرة رتيبة في جناح من البيت قصي، وكانت عزيزة تبيت معها فيها. وما كان أحد يعرف أن عزيزة ابنتها، وهكذا قضى الله على رتيبة أن تكون أمومتها - وهي أمومة شرعية - مستورة مستترة عن الجميع، لا يعرفها أحد من البيت الذي تعيش فيه، أو من القرية التي تحتوي هذا البيت.
وفي يوم بينما كانت الشمس ترسل شواظا من نار على القرية، وفي فترة الظهيرة التي لا يطيق أحد فيها أن يترك السقف الذي يحميه من سعير الحر، وكانت رتيبة وابنتها عزيزة تنالان قسطا من الراحة في فترة القيلولة، وكان العمدة في حجرته مع زوجته. وكان سامي في سريره بالغرفة المجاورة لهما.
بلغ أذن رتيبة صوت طرق واهن على شباك حجرتها، وتعجبت؛ فهي لم تتعود أن يطرق أحد شباكها. بل ولم تتصور أن أحدا يجرؤ أن يطرق شباكا في بيت العمدة بهذه الطريقة الهامسة. صمتت حينا فتوالى الطرق. أيقظت عزيزة، وساد الصمت لحظات، ثم عاد الطرق وسمعتاه معا ... ما هذا؟ - من؟
قالتاها معا وجاءهما صوت مرتعد. - أنا؟ - أنت من؟ - أنا صميدة.
وقالت رتيبة وصوتها في طريقه إلى الارتفاع: صميدة؟! صميدة من؟ - أنا في عرضك، اخفضي صوتك ... أنا صميدة الدلهوني. - ماذا تريد؟ - أنا واقع في عرضك يا ست رتيبة. - من أين تعرفني أيها الرجل؟ - من سيرتك في البلدة، الجميع يمتدحك. وأنت أقرب واحدة من الست حرم العمدة. - ماذا تريد؟ - أختي. - ما لها أختك؟ - يريد العمدة أن يزوجها غصبا عنها. - والعمدة ما شأنه بأختك؟ - الرجل الذي يريد الزواج منها دفع له مبلغا كبيرا. - مبلغا كبيرا! من هذا الرجل. - الشيخ دهشور الملواني، سمعنا أنه دفع له ثلاثمائة جنيه. - وأختك لا تريده؟ - إنه رجل عجوز تخطى السبعين من عمره وأختي في السادسة عشرة من عمرها. وابن عمها خطيبها منذ هما أطفال. أختي ستموت مني يا ست رتيبة، أنا في عرضك. - وماذا يستطيع العمدة أن يعمل؟ زوجها لابن عمها، ولن يستطيع العمدة أن يصنع شيئا. - ست رتيبة! ألا تعرفين ماذا يستطيع العمدة أن يعمل؟
Неизвестная страница