ورسا الحوت إلى أرض مدينة، وخرج الشيخ النوراني، ومضى في طريق بين بيوت، وإذا بغلام مقبل عليه حتى إذا اقترب منه وأصبح بين يديه إذا به يضربه ضربة صاعقة فيقتله، ويحيط الهول الآخذ بسامي ويتملكه الذهول، وتكاد الدهشة أن تعقد لسانه، ولكنه جاهدها، حتى استطاع أن يصيح بالشيخ في استنكار شديد: أتقتل نفسا زكية بغير نفس؟ أهذا عمل يرضاه الله؟ أهذا معقول؟ لقد كنت أحسبك ربانيا!
ولم ينظر إليه الشيخ، وكأنه ما سمعه وصاح سامي ثانية وثالثة ورابعة. فنظر إليه الشيخ وابتسم تلك الابتسامة المشرقة بالنور، وصمت سامي.
وركب الشيخ حوته، ومضى طريقه حتى بلغا قرية نزل بها الشيخ واختفى الحوت. ورأى الشيخ جماعة كبيرة من الناس فاقترب منها، وقال في مسألة وفي اعتزاز لم يزل يحتفظ به: ألا أجد عندكم طعاما؛ فقد مسني التعب ولا أجد هنا طعاما.
فأشاح عنه الناس، وكأنهم ما سمعوا مسألته.
وانصرف الشيخ عنهم ومضى طريقه من القرية في هدوء من يعرف مقصده. وبلغ الشيخ جدارا يهم بالسقوط، فراح يصلح شأنه ويقومه، حتى أصبح ثابتا قويا.
فقال سامي: هذه أول حسنة أراك تصنعها، ولكنها أيضا عجيبة أيرفض أهل القرية إطعامك، فتصلح لهم حائطا يوشك أن ينقض؟ ألم يكن يجدر بك أن تطلب منهم أجرا جزاء ما صنعت.
ونظر إليه الرجل وابتسم، ثم رجع إلى الحوت فركبه، وبلغ صخرة رسا عندها الحوت، فنزل الرجل النوراني، وجلس عليها، وأشار إلى سامي فقدم إليه والذهول لا يزال يحيط به، وأومأ إليه الرجل، فجلس سامي، وأراد سامي أن يعود إلى استنكاره، ولكن الرجل النوراني سارع قائلا: اسمع حتى يطمئن قلبك؛ أما السفينة فهي لقوم مساكين لا حياة لهم إلا بالعمل في البحر. - أوهذا سبب يجعلك تخرقها وتغرقها؟ - بل إني أنقذها. - لا أحسب أن مع الخرق إنقاذا! - بل هو الحق، فإني أردت أن أعيبها عن عمد؛ لأن ملكا ظالما كان قادما من خلف السفينة بأسطوله، وكان يستولي على كل سفينة يجدها غصبا. وأمرني الله أن أخرق هذه السفينة، حتى يراها الملك الطاغية وكأنها ستغرق فيتركها لأصحابها المساكين. - وهل سلمت السفينة؟ - ولم يأخذها الملك اللص .
وهم سامي أن يفتح فمه، فإذا بالشيخ يقول: تريد أن تسأل عن الغلام؟ - أمعقول هذا؟! - إن أبويه مؤمنان قريبان إلى ربهما كل القرب. - أصبحت المصيبة أعظم. - بل انتظر ... إن هذا الابن كان سيرهقهما ويسيء إليهما، ويلاقيان منه الشقاء والعقوق والعدوان، فأردنا أن يهب لهما ربهما خيرا منه ابنا زكيا بارا يصل الرحم، ويكون لهما على الحياة عونا، ولا يكون عونا للحياة عليهما. - ولكن الأبوين سيحزنان لموت ابنهما فهما لا يدريان أنهما كانا سيجدان من ابنهما هذا عقوقا ونكرا. - إن حزن عام أو عامين خير من نكد الدهر كله، وما أدراني وما أدراك؟! لعل الله يكتب لهما مزيدا من الخير جزاء صبرهما على الجزع الذي أحاط بهما لموت الغلام! - أصبت و... - تريد أن تسأل عن الجدار؟ - نعم. - أتخيلت أنني أريد من الناس طعاما وأنا في حمى الله؟ - دهشت لهذا. - أنا أردت أن أمتحن كرم هؤلاء الناس، فكانوا عندما توقعت منهم بخلا وشحا. - والحائط الذي أقمته؟ - إنه لغلامين يتيمين في هذه المدينة، وإن تحته كنزا، وقد كان أبوهما رجلا صالحا، فشاء ربك في علياء سمائه أن يبلغ الفتيان أشدهما، ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وإكراما لعباده المؤمنين. وأنا يا بني لا أفعل ما أفعل مختارا، فما صنعت شيئا مما صنعت عن أمري. - باركك الله أيها الشيخ الرباني! سلام عليك. - إلى أين؟ - أعود. - بل انتظر. - إذا أمرت. - فاجلس. - أمرك. - ألم تكن تسأل ربك لماذا جعلك شقيا بأبيك وأنت على ما أنت عليه من حب الله وطاعته؟ - لا أعجب الآن حين أجدك تعرف هواجس نفسي. - أعرفت الآن؟ - إن قلت نعم، عرفت أنت أنني لم أصدقك القول. - يا بني، إن عدالة السماء لا صلة لها بعدالة الأرض. إن الإنسان في دنياه هذه الضيقة لا يستطيع أن يصل إلى عدالة السماء، ولكن الإنسان حين يؤمن إيمانك يثق أن الله وهو العدالة المطلقة لا يريد بالناس إلا خيرا. وقد رأيت المركب قد خرقت، ولكن الله أنقذها من السلب. ورأيت الغلام قد مات، والموت ليس عقابا لمن مات ، وقد نقله الله إلى جواره قبل أن يسيء إلى والديه، وقبل أن يصبح جبارا شقيا، فموته إذن رحمة به وثواب لوالديه، أهذا النوع من العدالة المطلقة يعرفه البشر. والجدار حفظ به للأسرة المؤمنة كنزا أراد سبحانه أن يظهر في الوقت الذي قدر سبحانه أنه أحسن الأوقات لهما. فعدالة السماء يا بني هيهات لبشر أن يدركها، وإنما علينا فقط أن نؤمن بها، ونؤمن أنه الرحيم الرحمن اللطيف الخبير. هيه يا بني أوجدت جوابا لسؤالك؟
وصحا سامي من نومه وعيناه تفيضان بالدمع وتوضأ وصلى، ثم صلى، ثم صلى. يدعو ربه ويشكر آلاءه عليه. سبحانك ربي، فأنا إذن أثير عندك قريب منك. عبدك، أنا أعاهدك يا رب العالمين أن أكون حتى ألقاك العبد الشاكر العامل في طاعتك، أصحب أبي بمعروف، وأرد ظلمه عن الناس بكل ما أملك من الإيمان والقوة التي وهبت لي. اللهم أعني على اتباع أوامرك، وعلى رفع الظلم عن المظلوم. وعلى رد الحق إلى أصحابه إنك أنت العزيز ذو القوة المتين، اللهم لقد بلوتني لتختبرني بما يفعل أبي، اللهم أنت القائل:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ، اللهم فاجعلني من أولئك الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، فقد قلت عنهم سبحانك:
Неизвестная страница