أغمضت عينيها بعد ذلك وغمغمت: «إني تعبة جدا!» فرجاها أن تنام، على أن يستأنفا الحديث غدا. وخلع حذاءها ثم غطاها، ولكنها أزاحت الغطاء عن صدرها بحركة عصبية فلم يعده، وما لبث شخيرها أن تردد. واستيقظ حوالي التاسعة من صباح اليوم التالي بعد ليلة سهاد ممزقة بالفكر، وذهب إلى حجرتها ليوقظها فوجدها ميتة. ترى هل ماتت وهي نائمة، أو أنها نادته آخر الليل فلم يسمع؟ على أي حال وجدها ميتة وهي لم تزل بالملابس التي غادرت بها السجن. وها هو الآن يتفحص بعناية ودهشة صورة الزفاف. الصورة التي جمعت بين والديه منذ ثلاثين عاما. وها هو يركز بصره على صورة أبيه، على وجهه بالأخص. شاب جميل حقا، مفعم بالشباب والحيوية، ونظرته تفيض بالاعتداد بالنفس، ووجهه المائل للبياض، المستطيل الممتلئ، ذو الجبهة العالية، والطربوش المائل إلى اليمين، لا يمكن أن ينسى. ولم تكذب أمه حين قالت إنه صورة منه، ولكنه كما يكون القمر على الورق، صورة من القمر في كبد السماء.
وفي شقة الجيران أخذ المدعوون يتوافدون وأنغام الموسيقى تترامى، هذا وصوت القرآن يتلى في غرفة المرحومة. والآن أين هي الحقيقة؟ وأين هو الحلم؟ أمك التي ما تزال نبرتها تتردد في أذنك قد ماتت، وأبوك الميت يبعث في الحياة. وأنت المفلس المطارد بماض ملوث بالدعارة والجريمة تتطلع بمعجزة إلى الكرامة والحرية والسلام.
2
ليبق الأمر سرا، وإذا خاب مسعاه فليستعن بمعارفه. وليبدأ بالإسكندرية؛ فهذا طبيعي جدا، وإن يكن من المستبعد أن يقيم بها شخص كأبيه ولا تدري به أمه. واتخذ من دليل التليفون دليله. حرف السين، سيد، سيد، سيد، حتى استقرت عيناه على: سيد سيد الرحيمي. آه لو يدلله الحظ، ويعفيه من متاعب لا يدري مداها أحد. سيد سيد الرحيمي صاحب مكتبة المنشية. أين هذا من جاه أبيه؟ والمنشية كانت معبرا لأمه طيلة ربع قرن من الزمان، ولكن لعله يجد في الاسم مفتاحا للغزه. ووجد صاحب المكتبة في الخمسين من عمره، وذا سحنة لا تمت بسبب إلى صورة أبيه. وأخبره أنه يبحث عن سمي له، وأطلعه على صورته مخفيا صورة أمه بكفه، وقال الرجل: لا أعرف صاحب هذه الصورة.
ولما أوضح له أنها صورة التقطت منذ ثلاثين عاما، قال: ولا أذكر أني رأيته. - ألا يمكن أن يكون قريبا من بعيد؟ - نحن في الأصل من الإسكندرية، وجميع أهلي يقيمون هنا عدا بعض أقارب في الريف من ناحية الأم، ولكن ما سبب بحثك عنه؟
وارتبك لحظة ولكن سرعان ما أجاب: إنه صديق قديم للمرحوم أبي، أليس للرحيمي فروع في بلاد أخرى؟
وتفحصه بنظرة لم تخل من ريبة، وقال: الرحيمي هو جدي، ولا ينتسب إليه في أسرتنا إلا أنا وأختي، وليس لنا فروع من ناحيته خارج الإسكندرية.
ولا سبيل إلى الصبر أو الطمأنينة لمن لم يعد يملك سوى مائتين من الجنيهات. وهي تتناقص بمرور الساعات، ولا أمل بعدها في حياة كريمة. ومرضت عيناه من التفحص المركز للوجوه، وأعياه القلق. ولجأ إلى محام من معارفه يشاوره، فقال له: لعل له رقم تليفون سري.
وتطوع لمعاونته في الكشف عنه دون نتيجة، ثم قال له: اسأل مشايخ الحارات.
فقال صابر بإنكار: إنه وجيه بكل معنى الكلمة. - إن ثلاثين عاما خليقة بأن تفعل الأعاجيب، بل في نيتي أن أكلف صديقا من ضباط البوليس ليتحرى لك عنه في السجون. - السجون؟ - لم لا؟ السجن كالجامع مفتوح للجميع، وأحيانا يدخله إنسان لنبل في أخلاقه لا لاعوجاج.
Неизвестная страница