ودهش جناب المستشار كما دهشت حضرة الناظرة؛ لأن السلام كان يدل على أن كلا منا يعرف الآخر، وألقيت الدرس أمام عظمته، فسر منه كثيرا ، وفي نهايته نظر إلى المستر دانلوب، وقال: ما الذي يمنع تلك السيدة من أن تكون ناظرة لتلك المدرسة؟
وبهت المستر دانلوب، ولم يحر جوابا، واحمر وجه الناظرة، ولكنها لم تقل شيئا، وخرجوا من غرفتي إلى غرفة الأستاذ المختار لوكالة المدرسة، وكان طويل القامة جدا، وقد وقف على المنصة، فكاد يصل إلى سقف الغرفة، وضرب بيده اليمنى جانبه الأيسر صارخا: قيام! فقفز السلطان مترا من هول تلك المفاجأة، وكادت يد المدرس تصل إلى طربوش السلطان، فلم يقف السلطان في الغرفة، ولم يسمع كلمة من الدرس غير تلك الكلمة المشئومة «قيام»، ثم ذهب إلى غرفة الناظرة، وأقسم لا يبرح المدرسة حتى ينقل منها ذلك المعلم الفظ؛ لأنه أزعجه هو، وهو رجل، فما بال الطالبات، وهن من الجنس الرقيق، وهكذا كتب خطاب نقله أمام عظمة السلطان، ولم يعد الأستاذ للمدرسة مرة أخرى.
قد يظن القارئ أني حرضت عظمة السلطان عليه حتى تم له ما تم، ولكني أشهد الله أني لم أذكره لعظمة السلطان؛ لأني كنت أريد أن يحميني عظمته من ضرباتهم لا أن يضرب غيري.
وبعد مبارحة عظمته المدرسة جاءتني الناظرة، فقالت في شيء من الدعابة: ما الذي أعجبه من درسك، لقد كنت سوادا في سواد؟
قلت: لعلك عرفت من هذا أني أستطيع أن أرضي أبناء بلدي. قالت: إنه قد أخطأ في تقديرك. قلت: من منا التي تنفى إلى مالطة؟ التي كانت تلبس ملابسها، أم التي تقول على السلطان مثل هذا القول؟ قالت: على رسلك! فهو لا يستطيع أن ينفيني.
وقد أهداني عظمته ساعة يد من الماس بسوار ذهبي، كما أهدى بعض المعلمات أشياء أخرى أقل من الساعة قيمة.
إيقاف الاضطهاد إلى تحسين الفرص
وضعت زيارة المغفور له السلطان حسين لمدرسة معلمات بولاق حدا لاضطهادي، فلم أعد بعدها مضطهدة، بل تركت وشأني، ولكني لم أكن أعمل بالمعنى الصحيح؛ لأني لم أكن معلمة، ولا ناظرة، بل كنت شيئا بين الوظيفتين، وهذا الشيء لا عمل له في الغالب، وهو ما يسمى بوكيلة المدرسة، تضايقت من هذه الحالة، وأردت أن أبحث عن عمل آخر مهما كان أستعيد فيه نشاطي وجدي، حتى إني رجوتهم أن أكون ناظرة لمدرسة أولية، وهي وظيفة لا تتناسب والمرتب الذي كنت أتقاضاه، ولكن كنت أراها أفضل من العطل؛ لأني أستطيع فيها أن أعمل، وأن أصلح المدرسة دون أن يعارضني أحد في ذلك الإصلاح، وكانت في نظري على حد المثل الإنجليزي «كن رأس كلب، ولا تكن ذنب أسد»، ولكنهم أبوا علي حتى تلك الوظيفة المتواضعة، وأخيرا عولت على ترك العمل في الوزارة، فكتبت إلى مستشار المعارف المرحوم المستر دانلوب خطابا باللغة الإنجليزية أقول فيه ما نصه:
أريد يا جناب المستشار أن أصارحك بما يجول في نفسي، ولكني أخشى إن فعلت ذلك أن تظن أني متهوسة لا أقدر ما لك من السلطة والسلطان، وأنا لذلك أقول لك إني أعرف جيدا أنك مستشار وزارة المعارف؛ أي وزيرها الفعلي، وأن في استطاعتك أن تفصلني من عملي بلا ذنب، ولا يستطيع أحد أن يناقشك في ذلك، بل أنت أقوى من ذلك، فإنك تستطيع أن تمنعني من التوظف في جميع مجالس المديريات، بل أنت تستطيع بمساعدة أنصارك الكثيرين أن تمنعني من أي عمل حر مهما كان، وأنت فوق هذا وذاك الرجل الإنجليزي النافذ الكلمة، وفي البلد أحكام عرفية، فأنت تستطيع التخلص من حياتي بكلمة تخرج من فيك.
إذن أنا أعرف مقدارك تماما، ولكني أريد أن أسدي إليك معروفا بأن أطلعك على ما يقال في غيبتك، والرجل القوي العظيم لا يعرف ما يقال عنه، وقد يفيده ذلك لو عرفه، فأنا أقول لك مع شدة احترامي لشخصك إني إذا دخلت غرفة نومي، وأغلقت نوافذها وأبوابها، ووثقت أن أحدا لا يسمعني من خلق الله قلت فيك ما يأتي:
Неизвестная страница