ساء أعضاء المجلس تلك الجرأة، واعتبروها إهانة لهم، وطلبوا عقد المجلس بصفة مستعجلة ليطلبوا فصل ناظرة المدرسة، وعلم المدير بما أرادوه، وكان ذكيا لبقا اعتاد معاشرة الملوك، والخروج من المآذق، فعقد المجلس، وبعد أن سمع مرافعتهم وإلحاحهم في طلب فصلي، قال لهم: إنه هو الآخر مستاء مني لتلك الجرأة، ولكنه هو المسكين فيهم إذ هو الذي قضي عليه بمعاملة الناظرات، وهو محافظ على سمعته لا يستطيع أن يتعاون مع ناظرة ماجنة، أو مستهترة، وإنه يطلب منهم قبل الفصل أن يبحثوا عن ناظرة أخرى، فإذا استطاعوا الوصول إلى ناظرة تماثل نبوية موسى في كمالها وحشمتها فلا مانع عنده من رفت نبوية لتحل تلك محلها.
أما أن يعين مكان نبوية ناظرة ماجنة مستهترة فهو ما لا يرضاه لشرفه، بل يفضل أن تشتمه الناظرة عن أن يتعامل مع فتاة سيئة الأخلاق لا يستطيع ردها إلى الكمال والفضائل ...
وهنا عرف الأعضاء أن المدير لا يريد تغيير الناظرة، وأن مدير التعليم حينما زين لهم تلك الفكرة أراد أن يوقع بينهم وبين المدير، فعادوا إلى صوابهم، وأمنوا على كلامه، وانتهت الجلسة بأن أرسل خطاب شكر على محافظتي على الأخلاق والآداب.
هكذا كان حضرة صاحب المعالي سعيد باشا ذو الفقار حريصا كل الحرص على سمعته، لا يسمح مطلقا أن يمسها شيء من الشك أو الريبة، ومما أذكره لمعاليه أن السيدة لبيبة هاشم، وكانت صاحبة مجلة في ذلك الوقت جاءت لمقابلته فرفض مقابلتها، وزارتني لأتوسط بينها وبين المدير في تحقيق رغبتها، فكلمته تليفونيا، ورجوته أن يقابلها فقال: هل هي صغيرة السن؟ قلت: نعم هي في مثل سني، أو أكبر قليلا. قال: أرجو أن تعافيني من تلك المقابلة. قلت: أحمد الله الذي خلق لي وجها يمكنني من مقابلتك صباح مساء دون أن ترفض أو تتردد. وكان لشدة حرصه على العادات الشرقية لا يقابلني أنا نفسي إذا زرت منزله، بل تقابلني السيدة حرمه وكريماته، وكانت عاداته في منزله عادات الشرقيين المحافظين، فلا يسمح لحرمه المصون بأن تصحبه في أية جهة، ولم يرها أحد من المنصورة عموما، بل كانت تأتي من القاهرة وتذهب إليها دون أن يشعر أحد بمجيئها أو ذهابها، وكان معاليه قوي الشكيمة في منزله، حسن المعاملة في وقت واحد، لا يسمح لخادمة أن تدنو منه، بل كانت تقوم حرمه بكل طلباته الخصوصية، فكان مثال الكمال في منزله، وفي عمله.
وقلت له يوما: إني أعتقد يا باشا أنك الرجل الوحيد المعصوم، وكأن الله قد خلقك لا تعرف الفساد. فضحك مستهزئا، وقال: نعم يا نبوية، أنا لا أعرفه لا في منزلي ولا في عملي، وهي جملة حكيمة لو نفذها الرجال لأفادوا البلاد، وأفادوا العمل، فالرجل خارج عمله حر فيما يريد، والعصمة لله وحده، وما انتقدت في حياتي الرجال لشيء من تصرفاتهم الشخصية، ولكني كنت أنتقد تصرفاتهم أعمالهم الحكومية التي ما تناولوا مرتباتهم إلا لإصلاحها، ولو أنهم أهملوا ذلك الإصلاح الذي ينقدون له لخفت المصيبة، لكن كثيرا منهم يقوم هو بإفساد الأخلاق في تلك الأعمال الموكلة إليه، وهو شر الفساد والمحن.
مكيدة
كرر مدير التعليم تدبيره ثم فشل؛ لأن سعادة المدير تمسك بأن لا جدال مع فتاة كاملة، ورأى هو أن مسألة الكمال والحشمة حالت بينه وبين الانتقام مني، وجعلت المجلس يكتب لي جواب شكر بدلا من أن يفصلني فكان همه - ولا شك - أن يجد في هذا الكمال نقصا ليطلع عليه المدير، وكنت لا أظهر أمام أحد بشيء من الحلي مهما كان نوعه، ولكني - ككل شابة أو فتاة - أميل أن أظهر أمام زائراتي من السيدات أني أمتلك مثلها أو أكثر؛ ولهذا كنت إذا زارتني سيدات أريهم حليي التي مر بنا ذكرها، ومن بينها ذلك القرط، ولم يكن غرضي من ذلك التجمل بل كان الظهور بالغنى.
وفي يوم من أيام الجمعة زارتني بعض السيدات، ولبست حليي كعادتي معهن، ثم انصرفن، ونزلت بعد ذلك أرتب مكتبي، وأنا لا أزال متجملة بذلك القرط، وفجأة أخبرني البواب بأن سعادة مدير التعليم قد شرف، فأمرته بإدخاله، ثم تذكرت القرط فانتزعته، ووضعته في سلة الورق التي على مكتبي تحت الورق الموجود في السلة.
ودخل هو وسألني في بعض أشياء، فدخلت المدرسة لأستقصي عنها، وعدت وحياني بعد ذلك وخرج، ولعدم اكتراثي بمسألة الحلي لم أفطن إلى أن القرط قد فقد من مكانه؛ لأني لم أبحث عنه، ولم أتلمسه، وبعد ذلك الحادث بثلاثة أيام خاطبني مدير التعليم تليفونيا، وقال لي: لقد ظننتك فصلت الخدم جميعهم. قلت: ولم ذلك؟ قال: ألم تفقدي شيئا ثمينا؟ فتذكرت القرط، ووضعت يدي في السلة لأخرجه من مكانه فلم أجده، فعلمت أنه أخذه، قلت: إنك إذن آخذه. قال: أولم تعرفي ذلك إلى الآن؟
قلت: نعم؛ لأني لا أهتم بتلك الأشياء، ولم أتذكر أني وضعته هنا إلا بعد أن كلمتني أنت الآن. ومر على ذلك وقت ولم يحضر هو القرط، ولم أطالبه به، وفي يوم من الأيام كنت مسافرة، وكان سعادة المدير مسافرا إلى القاهرة أيضا، وظهرت في العربة التي كان هو بها أي في ديوان الحريم الذي كان إلى جانبي في الدرجة الأولى، ورآني مدير التعليم، وكأنه انتهز تلك الفرصة ليظهر للمدير أني كباقي النساء حتى ينتزع منه فكرة الكمال التي علقت بذهنه، ولا أدري كيف كان ممسكا بالقرط في تلك اللحظة فأخرجه وقال لي: تفضلي قرطك، ليعلم الناس أنك كباقي النساء لك من الحلي ما لهن. قلت: إنك يا سيدي أنت ولا غيرك من الرجال لم ترني ألبسه، أما وجود حلي ثمين عندي فهو كوجود أي مبلغ من المال عند أي رجل من الرجال، ولو لم تجده أنت في سلة الورق لما علمت أن لي قرطا كهذا، على أني أؤكد لك أني لا أحتفظ به كأداة للتجمل، بل أحتفظ به كمال مدخر، وكأثر من آثار الماضي. وكان لسوء حظ مدير التعليم أن سعادة المدير لم يأبه شيئا من التفاتته، فلم تترك تلك الحادثة أثرا ما في نفس سعادته غير اعتقاده في، بل زاد احترامه لي، واهتمامه بأمري.
Неизвестная страница