عولت بعد ذلك أن أعين إنجليزية لتدريس اللغة الإنجليزية، فذهبت إلى كونوت هاوس لأبحث عن معلمة إنجليزية هناك، فلم تقبل إحداهن السفر إلى الفيوم، واعتذرت إلي رئيسة المنزل، ولكني عند خروجي تبعتني سيدة إنجليزية كانت تجلس منفردة في ناحية من الصالة، وقالت لي: إني أنا أقبل ذلك العرض، ولكني لا أريد أن يعرض كلامي هذا على الرئيسة؛ لأنها تكرهني بعض الشيء، وكل عيبي في نظرها أن في أذني شيئا بسيطا من الصمم، قلت: ولكنك تسمعين. قالت: نعم، ولكني لست حادة السمع كباقي الإنجليزيات. قلت: لا بأس فليس هذا بالعيب العظيم. قالت: أعطني إذن عنوان المدرسة، وسأكون عندك بعد يومين. وفي الميعاد المحدد، وصلتني منها برقية فانتظرتها في محطة الفيوم، وحضرت بها إلى المدرسة، وأنا في أشد ما يكون من الغبطة والسرور حيث نجحت في إصلاح تعليم اللغة الإنجليزية بعد أن كان مهملا ، أكلت معها طعام العشاء ، وجهزت لها غرفة، وبعد شيء من السمر قامت كل منا إلى غرفة نومها.
ومن المدهشات أني في تلك الليلة حلمت أن تلك السيدة قد جنت، ووقفت وبيدها سكين تتهدد ابنة أخي، وقد كانت تلميذة داخلية بالمدرسة، فاستيقظت من النوم مرعوبة أرتجف من هول ما رأيت، ولكني لم أعر ذلك أي التفات، بل ظننته أضغاث أحلام، وقصصت لها الحلم، ونحن على مائدة الإفطار، فظهر عليها الغضب والامتعاض، وقالت: ليس ذلك بحلم، ولكنك إنما اتصلت ببعض أعدائي. وهنا جاءني شيء من الشك؛ لأني كنت أظنها ستضحك من ذلك الحلم، وتعتبره نوعا من التسلية، أما وقد أغضبها فقد ترك ذلك في نفسي أثرا، ولكني كظمت غيظي، وأكدت لها أن المسألة لا تعدو حلما، وبعد أربعة أيام من تاريخ وصولها إلى المدرسة، وقفت على باب غرفتها في الساعة السابعة مساء، وهي ترغي وتزبد، وتريد أن تضرب ابنة أخي بسكين أخذتها من المطبخ مدعية أنها قد أساءت الأدب، وهنا ظهرت عليها علامات الجنون الحقيقي، وأخذت أهدئ من غضبها في غير جدوى، وفي الصباح أخذت تذهب وتجيء دون أن تدرس، ثم دخلت غرفتي مرارا لتقول لي بصريح العبارة إنها لا تستطيع التدريس، وإنها تريد أن أعطيها مرتب ستة شهور لتذهب إلى حالها، وإلا ارتكبت في المدرسة جناية أكون أنا المسئولة عنها، ولم يكن في استطاعتي إعطاؤها ذلك المبلغ، ولم أشأ أن أعرض الأمر على المدير خشية أن يسفهني فيما فعلت فأخذت أسير وراءها أينما سارت حتى لا ترتكب ما تهدد به من تلك الجناية، ولم يكن في الإمكان أن يقبض البوليس على سيدة إنجليزية، والإنجليز في ذلك الوقت هم أسياد البلاد، إذن كان علي أن أتحمل تصرفاتها، وأن أعالجها بما أستطيع من صبر وحيلة.
وفي صباح يوم دخلت إلى مكتبي، وأنا أكتب شيئا، ولعله جدول الدراسة، فقالت لي: ماذا تكتبين؟ قلت: أكتب خطابا. قالت: لمن؟ قالت ذلك بخوف وارتباك، ولاحظت ذلك عليها، فقلت: لقنصل إنجلترا. قالت: لماذا؟ قلت: لأشكوك إليه. قالت: أوأنت فاعلة؟ قلت: نعم لا شك في ذلك. فخرجت من مكتبي مسرعة، وعادت ومعها حمال حمل حقائبها وخرجت، ولكنها لم تترك غرفة نومها مفتوحة، بل أغلقتها، وأخذت مفتاحها معها.
وصارحت المدير في ذلك الوقت بالحقيقة، فقال إنه لا يرى أن نتقدم لفتح تلك الغرفة من غير استئذان السفارة البريطانية، وهنا ذهبت إلى السفارة البريطانية، وشرحت لهم الحقيقة، فقال لي موظف السفارة الذي قابلني بعد أن قابل السفير: لا حرج عليك في فتح الباب، والسفير جاد في البحث عنها. وظهر لي أنها معروفة لدى السفارة، وبعد أربعة أيام، وصلني خطاب من بورسعيد فيه مفتاح الغرفة، ويظهر أنها خشيت مغبة بحث السفير عنها، فسافرت من بورسعيد إلى إنجلترا.
وهكذا فوجئت بالصعب العسير في أول عمل توليته.
نقل المدير
كان قيام الفتيات بالأعمال العلمية كإدارة المدارس أمرا جديدا وغريبا خصوصا في نظر الفيوميين؛ ولهذا كانوا يسيئون سمعة كل من تولت رئاسة مدرسة البنات، وكنت أنا على تمام العلم بذلك، فكنت أخاف كل الخوف على سمعتي، خصوصا وفي المدرسة كما قدمت معلم كان يقوم بأعمال الناظرة قبل تعييني، وكان يعتبر نفسه أحق بتلك الوظيفة من أية فتاة، وأن أية ناظرة تأتي إنما اغتصبت منه تلك الوظيفة اغتصابا لا بعلمها ولا بكفايتها، وإنما بجنسيتها، وهو لا يؤمن بذلك، بل يعتقد أن الرجال أولى من النساء بتلك الوظائف، وجئت أنا فحرمته من القيام بعمل الناظرة، فأصبح لديه لبغضي سببان لا سبب واحد.
كذلك كان كما قدمت بالمدرسة معلم من دار العلوم يدرس التدبير المنزلي، وقد منعته من ذلك التدريس من يوم تعييني، ولا شك أنه كان يتذوق ما يطبخ، وإخواننا من دار العلوم وأمثالهم من الأزهريين يقدرون الأطعمة تقديرا لا يفوقه شيء، وإذن فقد أصبح هو الآخر ضدي، ولكني كنت ألاين الاثنين، وأعطف عليهما، وأحترس منهما، وكنت لا أقبل على سمعتي أية ريبة حتى لا أجعل لهما ولا لغيرهما سبيلا إلى الخوض في عرضي؛ ولهذا كتبت على باب المدرسة: «لا تقابل الناظرة أحدا من الرجال قبل الساعة الثامنة صباحا، ولا بعد الرابعة بعد الظهر.» أي إني لا أقابل الرجال إلا في أوقات العمل المعينة للدراسة، والمدرسة في ذلك الوقت تكون مكتظة بالمعلمين والمعلمات والتلميذات أيضا، فلا شبهة علي في أن أقابل أحدا، وكان حضرة صاحب الرفعة محمد باشا محمود يقرني على كل ما أفعله، ولا يتدخل في أعمالي.
وفجأة انقضى عهده، ونقل محافظا لبورسعيد، وخلفه غيره، وعز على المدير الجديد أن يكون للناظرة - وهي مرءوسة له - أوامر ونواه، فكان أول ما فعله أن أرسل إلي سكرتير مجلس المديرية الساعة السابعة مساء فرفضت طبعا مقابلته، وقلت للبواب يخبره أني لا أقابل الرجال إلا في وقت العمل، وأني الآن منفردة في المدرسة، فلا يجوز أن يدخل عندي رجل مهما كانت الأسباب، وقال السكرتير: إنه مرسل من قبل سعادة المدير. قلت: ولو.
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدير لأعتذر إليه عن رفضي، وأشرح له الأسباب فقلت له: إني لا أزال فتاة صغيرة، وأقيم في المدرسة وحدي، ودخول الرجال علي وأنا منفردة يعرض شرفي للقيل والقال. قال: ولكنه مرسل من قبلي. قلت: إن الناس لا يعلمون تلك الرسالة، وهم فقط يرون رجلا يدخل في منزل تقيم فيه فتاة وحدها، على أنك أنت شخصيا لا تستطيع أن تضمن سلوك مرءوسيك، فهبني فتاة فاسدة الأخلاق، وافرض أن ذلك السكرتير على شاكلتي، فمن الذي يضمن لك حسن مسلكنا، ونحن على انفراد بعيدين عن كل العيون؟ أليس من الأفضل أن ترسله أثناء النهار حتى لا نكون نحن الاثنين في خلوة؟ قال: ولكنه يعمل النهار في المجلس. قلت: إن عمله معي قليل لا فائدة فيه، وقد قمت بأعمالي في المدرسة الآن سبعة شهور دون أن يعمل معي سكرتير من المجلس والأعمال على ما يرام، وإذا كان ولا بد من حضوره إلي فلا بأس من أن يخلى من عمله، ولو نصف ساعة. قال: ولكن هذا أمري. قلت: إنك تأمر في كل شيء، اللهم إلا فيما يتعلق بشرفي شخصيا، فلا أقبل فيه أمرا ولا نهيا، إني إنما جئت لأعمل في الدراسة ، وأثناء الدراسة، لا أن أعمل الليل والنهار.
Неизвестная страница