وكان الواجب أن أعين في المدرسة السنية نفسها، ولكن حضرة الناظرة قالت إنها لا تسمح لمكان واحد يضمني ويضمها اللهم إلا القبر، ولما كانت وزارة المعارف لا تدير القبور، فقد عينتني بمدرسة عباس الأميرية.
سفوري
أردت السفور، فلم أكتب فيه مع أني قرأت كتب المرحوم قاسم بك أمين، وأعجبت بها، ولكن العادات لا تغير بالقول، وإذا حاول شخص تغيير قومه بأقوال منمقة قام عليه القوم، واتهموه بما ليس فيه، وهكذا قام المصريون على المرحوم قاسم بك أمين، واتهموه بكل شيء، وقالوا إنه إنما يريد السفور إشباعا لرغبته في المجون والعربدة.
ولو أني قمت فناديت بما نادى به لاتهمت بما اتهم، بل أمر منه؛ لهذا عولت على أن أدعو إلى السفور بالعمل لا بالقول، وقد كان ملبسي لا يجعل محلا للشك في استقامتي وتمسكي بالفضيلة الشرقية، فكشف وجهي وكفي كان مطابقا لما جاء في السنة والكتاب؛ ولهذا لم يستطع أحد أن يمس سمعتي بسوء.
ومن العجيب أنهم كانوا يسمونني حجابية متطرفة، ولا أدري لم كانت تلك التسمية وأنا سافرة الوجه، إنهم يظنون السفور مجونا وفجورا، ولم يكن ملبسي يساعدهم على أن ينسبوا إلي ذلك، بل كانوا يعتقدون أني أكثر الشرقيات محافظة على الآداب الإسلامية؛ ولهذا لم يقل أحد عني شيئا مع أني كنت المصرية الوحيدة التي أسفرت.
ألفت كتاب المرأة والعمل، وتكلمت فيه عن جميع عادات المصريات، ولكني لم أفرد فيه بابا للسفور والحجاب، بل قلت في مقدمته إني لا أتناول السفور والحجاب في كتابي؛ لأني لا أرى حجابا فأبحث فيه، فقرويات مصر سافرات، أما المدنيات فعلى وجههن نقاب أبيض شفاف لا يستر من وجوههن إلا الحياء، وهو يزيدهن جمالا وبهجة؛ إذ يزيد الوجه بياضا على بياضه الصناعي، أما الخدود فتظهر تحت النقاب ورديتين يجللهما الندى؛ لهذا لا معنى للكلام في شيء غير موجود، وسيهتدي الناس فيما بعد إلى حقيقة الأمر، قلت ذلك ليفهمه من يعقل فقط، ومن يعقل من الناس لا ينتقد السفور، أما أغبياء القوم فلم يفهموا من كلامي شيئا، وهذا ما انتظرته فقد ظلوا يقولون عني إني حجابية متطرفة.
ومن غريب ما حدث أني أقمت عندما فتحت مدرستي «ترقية الفتاة» بالإسكندرية حفلة مدرسية، كنت أستقبل فيها الزائرين سافرة الوجه، وأسلم عليهم وأحييهم، وأجلسهم في أماكنهم، وكان بالحفلة مندوب لجريدة وفدية يقدر ما لقاسم بك من فضل وعبقرية، وقد أعجبه أن يكون في تلك الحفلة ما يدل على أن غرس قاسم قد أثمر، وأن تلك الحفلة كانت أول ثماره؛ لهذا طلب الرجل أن يلقي كلمة، وسمحت له بها، فقام يمتدح قاسما، ويثني على همته، وذكائه وعبقريته، وفي الأسبوع التالي لتلك الحفلة قرأت في إحدى المجلات الأسبوعية انتقادا مرا على ما قاله ذلك الكاتب، فقد قالت إنه خرج عن حدود الأدب واللياقة في مدرسة بنات هي أولى بالأدب ونشر الفضيلة، ثم قالت المجلة: «إنها تعجب كل العجب كيف تصرح السيدة نبوية موسى الحجابية المتطرفة لهذا الكاتب المجوني بالكلام في حفلتها!»
قرأت ذلك ودهشت له، فقد كان مندوب تلك المجلة حاضرا في الحفلة، ورآني وأنا أستقبل الناس سافرة، ومع ذلك يسميني حجابية متطرفة؛ لأني في نظره لم أكن ماجنة ولا متبرجة، عجبت من هذا المنطق، فرأيت أنه من العبث أن أناقش عقليات كهذه، إذن لا بد أن أخاطب أمثال هؤلاء بما يستطيعون أن يفهموه، فكتبت إليه أقول:
إني لست مسئولة إلا عما تقوله إحدى تلميذاتي، أو ما أقوله أنا شخصيا، أما كلام غيري فيسأل عنه قائله، فإن الإنسان لا يسأل إلا عما يقوله هو أو يكتبه، أما أن يأتيه زائر فيطلب الكلمة فيصرح له بها وهو لا يعلمها، فلا شأن له هو بما قال ذلك الزائر.
ومع أن هذا القول لا يدل على أني أخالف الخطيب فيما قاله، فقد اتخذته تلك المجلة دليلا ساطعا على تمسكي الشديد بالحجاب.
Неизвестная страница