دفعني السرور بذلك الحلي الجديد أن ألبسه وأذهب لأزور إحدى قريباتي، وقد كنت في ذلك الوقت لا أتجاوز الثامنة من العمر، وكان منظري لا شك مضحكا؛ لأني ألبس من المصاغ ما تلبسه الآنسات الرشيدات، وأنا لا أزال طفلة، وقابلتني في الطريق امرأتان من الرعاع فأقبلتا علي، وقالت لي إحداهما: ألست ابنة السيدة فلانة؟ فقلت: نعم أنا هي. قالت: لقد كلفتني أمك أن أصنع لك عروسة كبيرة بحجمك، فتعالي معي لأعطيها لك. ورابني كلامها فقلت لها: وكيف أستطيع حمل عروسة في حجمي أنا؟
فدهشت المرأة وقالت: تعالي معي لأحضرها لك، وأحملها أنا، وأذهب بها إلى والدتك. قلت: لا داعي إلى ذهابي معك، وما دامت والدتي هي التي كلفتك صنع تلك العروسة فعليك أن تذهبي إليها بها، وستحتفظ بها والدتي لي. ودهشت المرأتان لهذا الجواب العجيب من طفلة، ومالت إحداهما على الأخرى هامسة في أذنها: «تكونش دي ست وانسخطت؟!»
أتممت زيارتي، ثم عدت إلى والدتي فأخبرتها الخبر، وقلت لها على مقدار شكي في المرأتين، فقالت: لقد صدق ظنك لأني لم أكلف أحدا عمل عروسة، ولعلهما أرادتا أن تسلباك حليك.
كان هذا الحلي موضع غرابة في الأسرة بأكملها، فقال عم والدتي إن والدتي لا تعرف التربية، وإن ابنها هذا الوحيد سيتلف من تلك التربية، وينشأ ممن يجمعون أعقاب السجاير، أما البنت فلن تفلح بعد ذلك الحلي «والدلع»، وستنشأ على أسوأ سلوك، قال ذلك عم والدتي، وأنا في الثامنة من عمري، وقد أثبتت الأيام خطأه؛ فقد كد أخي وعمل مع هذا الترف الذي كان يعيش فيه وملاينة والدتي له ولي، كد ودأب حتى كان من الأوائل في امتحان شهادة الحقوق؛ لأنه ترك المدرسة الحربية والتحق بالحقوق لأسباب صحية، وعين مساعدا للنيابة في شهر نجاحه؛ إذ كانت الحكومة تعين الأوائل بالترتيب، أما أنا فلم أكد أبلغ الثالثة عشرة من عمري حتى ازدريت لبس الحلي فوضعته في علبة، ولم ألبسه حتى الآن، إذ دخلت في تلك السن المدرسة السنية، ولم أر من اللياقة أن ألبس شيئا من هذا، والظاهر أنني اكتفيت بما تمتعت به من اللبس والدلع من نشأتي إلى سن الثالثة عشرة، ولم أعد بعد ذلك أشتاق لشيء منه.
ولعل حريتنا في صغرنا هي التي قوت من إرادتنا، وجعلتنا؛ أي أنا وأخي نبتعد عن اللهو، ونكد ونعمل فيما نريد، وهذه على ما أعتقد هي التربية الاستقلالية التي نص عليها علماء التربية، ولم تقم بها والدتي لعلم بما ستجنيه منها، ولكن دفعها الجهل والخوف علينا إلى معاملتنا تلك المعاملة اللينة.
وبهذا نشأنا على الصدق، وقوة الإرادة، ولكن هذه التربية لا تصلح في البلاد المستعمرة التي اعتاد أهلها الاستعباد، فأصبح الرئيس يحتقر مرءوسه، ويهينه لسبب وبلا سبب؛ فإذا رفض هذه الإهانة كان عليه أن يحتمل الذل والفقر والطرد، وهذا هو نفس ما صادفني في حياتي؛ فقد فشلت فشلا تاما، وسبب ذلك الفشل هو تلك التربية التي اعتدت منها أن لا أحتمل الضيم مهما كان ضئيلا.
وكانت والدتي بعد هذا إذا مرضت ألحت علي في أن أعمل الزار؛ لأنه تأكد لديها أن لي صاحبا من الجن، وأنني عندما أرضيته، وعملت الزار شفيت ، وهي تجهل أنني شفيت من تأثير السرور بما اشترت لي من الحلي، وأني بعد أن كبرت أصبحت لا أسر بتلك السخافات، بل إن أسباب مرضي كانت في الغالب لكدري من أشياء أهمها قلة المال، ولو أني أطعتها، وعملت حفلة زار لخسرت من النقود ما يضاعف مرضي، وهكذا استمرت هي على اعتقادها، وظللت أنا على نكراني وجحودي لجميل ذلك الزار.
كيف دخلت المدرسة السنية؟
اتجهت إلى التعليم كما قدمت، ولم أكتف بمطالعة القرآن وحفظه، بل أردت أن أتعلم تعليما صحيحا في المدرسة السنية، وعلمت من أخي أني إذا أردت دخول السنة الثالثة، وجب علي أن أعرف مقرر الحساب للسنة الثانية، وهو جمع وطرح وضرب وقسمة الأعداد الصحيحة والكسور الاعتيادية، وكان سني في ذلك الوقت 13 عاما، فطلبت من والدتي أن تعين لي معلما، واستشارت عمها فقال لها جملتهم المأثورة: «علموهن الغزل ولا تعلموهن الخط.» وهكذا رفضت والدتي أن تعين لي معلما، ورفضت أيضا أن تعلمني الغزل؛ إذ إني أجهله حتى الآن.
ساءني ذلك والتجأت إلى أخي، ولكنه في ذلك الوقت كان مشغولا عني بمدرسته، فأحضر لي كتاب الحساب المقرر على السنة الثانية، وكان فيه لحسن الحظ شرح تلك القواعد، فتعلمت منه الأربع قواعد الأصلية للأعداد الصحيحة والكسور الاعتيادية أيضا، ولا أنكر أني وجدت شيئا من الصعوبة في فهم عمليات الكسور الاعتيادية من الكتاب، ولكني تغلبت عليها، وحاولت في الوقت ذاته أن أتعلم ألف باء اللغة الإنجليزية مستعينة بالوقت القليل الذي كنت أختلسه من أخي متحملة تمنعه وسخريته مني، وأخيرا عولت أن ألتحق بالمدرسة السنية، ولما كاشفت والدتي برغبتي، قامت لذلك وقعدت، واعتبرته خروجا على قواعد الأدب والحياء، ومروقا من التربية والدين، وأخذت تقص الحكاية على أقاربها كأنها أحدوثة، وكان يساعدها على ذلك كل من سمع بتلك الرغبة الجامحة، صممت هي على الرفض، وصممت على تنفيذ رغبتي مهما بلغ الأمر، ولكني رأيت أن أخفي عنها تلك الرغبة مؤقتا، وأن أحاول الالتحاق بالمدرسة السنية دون أن أخبرها بذلك، فإذا نجحت وقبلتني المدرسة كان لي ولها شأن، تكتمت الأمر وعولت على تنفيذه سرا، فسرقت ختم والدتي، وذهبت إلى المدرسة السنية، وكتبت استمارة التحاقي بها، وختمتها بختم والدتي، ولا أنكر أن خطي في تلك الاستمارة كان مضطربا رديئا؛ لأني لم أعتد الكتابة، ولم أحسن إمساك القلم، وعجب سكرتير المدرسة السنية والمعلمون من جرأة تلك الفتاة التي جاءت لتقدم لنفسها، ولكي أحملهم على قبول طلبي جعلته بمصروفات، وكان أغلب طالبات السنية في ذلك الوقت يتعلمن بالمجاني؛ لعدم إقبال الأهالي إذ ذاك على تعليم البنات؛ ولهذا ظننت أن طلبا تقوم صاحبته بدفع المصروفات جدير بأن لا يرد.
Неизвестная страница