أما الآن فساءها إخفاق مساعيها وخيبة آمالها؛ إذ وجدت نفسها أنها عوضا عن أن ترفد بواسطة زوجها، وترتقي إلى ذروة السعادة التي عللت نفسها بالحصول عليها، أصبحت مضطرة أن تنكفئ راجعة إلى وطنها السابق مستعبدة، وقد أضاقت إلى حملها على بيت أبيها حمل زوجها وولديها، وقد زاد طينتها بلة، وأضاف إلى ذلها ذلا موت أبيها، وتقلص اعتبارها، وانحطاط مكانتها لدى أخيها الذي ليس عليه حق شرعي أن يعولها، مع أنه لم يقصر في إكرام كل منها وزوجها وولديها.
وكانت تلك الحروب التي قضت على أشرلد بالفرار إلى نورماندي لا تزال قائمة على قدم وساق حتى مالت كفة النصر نحو السكسون، وتوفي على أثرها ملك الدانمارك الذي استولى على العرش بعد جلاء أشرلد، فاسترجع السكسون قوتهم السابقة وأرسلوا يطلبون أشرلد ليكون ملكا عليهم، بشرط أنه يغير سلوكه القديم في الحكم والإدارة، أما هو فكان مع أما بغاية التلهف لإعادة مجدهما الغابر على أية طريقة كانت؛ ولهذا ما أبطأ أن رجعا إلى لندن حيث بايع الحزب السكسوني أشرلد الملك ثانية.
أما الحزب الدانماركي فلم شعثه وقوى ضعفه وأقام له ملكا يدعى كانيوت، ثم شبت نار القتال بين هذا الملك الجديد وأشرلد، أما كانيوت فكان رجلا حاذقا فهيما وغاية في الشجاعة والإقدام بعكس أشرلد، فإنه رغما عن جميع مواعيده ظل متناهيا في الخمول والبلادة، وآية في القساوة والجبن، وبالحقيقة إن ابنه أدموند الذي من امرأته الأولى كان أقدر منه على مقاومة كاينوت نظرا لما حصله من الفطنة والذكاء، واشتهر به من القوة وثبات القلب حتى إنه ساد على أبيه في بعض الاعتبارات، ومنها أنه في غضون تلك الاضطرابات سخط الملك أشرلد على أحد أشراف مملكته لأسباب، فحكم عليه بالقتل، وزاد على هذه الفظاعة أن نفى أرملته المسكينة وهي في ريعان صباها وجمالها إلى أحد الأديرة، فذهب ابنه أدموند إلى الدير وأطلقها واتخذها له امرأة، فبواسطة وقوع هذه المعاكسة بين الملك وابنه الذي كان أكبر قواد جيوشه أصبح أمل ثباته أمام كانيوت الدانماركي ضعيفا.
وفي الواقع كانت الأحوال تزداد سوءا وتعاسة، وأما تتجرع من وقت إلى آخر غصص القهر والكدر، وتنذر نفسها بتفاقم الويل وتعاظم الخطر، حتى توفي أشرلد سنة 1016، وبموته امتلأت كأس شقاوتها، وانطمست معالم سعادتها، إذ لم يكن لأحد من ولديها إدوارد وألفرد حق التملك عوضا عن أبيهما، بداعي أن أدموند ابن امرأة أشرلد الأولى كان أكبر منهما، وكانا كلاهما أصغر من أن يركبا الأهوال ويشهدا المعارك؛ ليجعلا لهما مكانة واهتماما في عيون الشعب، ثم إن أدموند نفسه إذ كان مزمعا الآن أن يصير ملكا لا يسر بتقدمهما، ولا يرى لهما إكراما، ولا يعتبرهما ووالدتهما سوى مقاومين له، وبالاختصار رأت أما أن مقامها في إنكلترا أصبح محفوفا بالمخاطر، فهربت بولديها مرة ثانية، وجاءت بمزيد اليأس والفاقة تطلب لهما ملجأ في بيت أخيها في نورماندي، وقد أمست الآن أرملة وولداها يتيمين، وكانا غلامين صغيرين وأكبرهما إدوارد الذي تعلقت به آمال التقدم، وتحولت إليه مطامح الترقي، كان هادئا رزينا تلوح عليه بعض مخايل الشجاعة، وتنبثق من محياه أنوار تؤذن بنيط الأمل بتوقع شيء من الإقدام منه على كبار الأمور وعظائمها.
ولكن أخاه أدموند أصبح الآن ملكا في غلواء شبابه وإبان شجاعته وثباته، وعليه أدلة ترجح أنه سيعيش ويعمر طويلا، وعلى فرض مفاجأة كارث يعجل اخترامه ويودي بحياته، فليس من رجاء لأما أنها تعود لمجدها المنصرم وعزها الفائت بداعي أن أدموند كان متزوجا، وله ابنان فيخلفه أحدهما بعد وفاته، فمن كل جهة نرى أن نكد الطالع قد قدر لأما أن تصرف باقي حياتها مع ولديها بالذل والفاقة والإهمال، على أنه «وبينما العسر إذ دارت مياسير»، فإن النهاية كانت بالخلاف كما سيجيء، فإن أدموند لم يملك أكثر من سنة حتى اغتيل فجأة، وفي مدة تلك السنة كان يرى أن كانيوت الدانماركي أخذ في التغلب عليه والاستيلاء على إنكلترا قسما بعد قسم، فجرد جيوشه وخرج لمحاربيه، وقبل شبوب نيران القتال بينهما أرسل أدموند يسأل كانيوت هدنة، ويطلب منه العدول عن سفك دماء العساكر إلى المبارزة بينهما، فأبى كانيوت قبول هذا؛ لأنه دونه جثة وقوة أعضاء، لكنه ارتأى طرح المسألة أمام لجنة تشكل من أمراء وقواد الحزبين، وكان الأمر، وفي الختام قسمت البلاد بين الملكين، واستبدلت الحرب بنوع من السلم، وبعد هذه العهدة بقليل قتل أدموند.
فأسرع كانيوت بدون إمهال واستولى على كل المملكة محتجا بأنه من جملة المعاهدة بينهما أن المملكة تستمر منقسمة بين الملكين ما دام كلاهما في قيد الحياة، وعند موت أحدهما يخلفه الآخر في التولي على قسمه، فلم تقم حجته هذه لدى قواد السكسون، لكنهم وجدوا نفوسهم لا يقوون على مقاومته؛ لأن ابني أشرلد من أما كانا لا يزالان قاصرين عن الإقدام على القيادة، وبني أدموند كانوا أطفالا، فلم يكن من فيه الأهلية ليصير زعيم السكسون وقائدهم العام، فالتزموا والحالة هذه أن يطووا كشحا عن تمحلات كانيوت ودعاويه الفارغة ولو إلى وقت قصير، وعليه رأوا من الحكمة أن يتغاضوا مسامحين في حقوق بني أدموند برهة يسيرة، ووكلوا إليه المناظرة عليهم حتى يبلغوا أشدهم، وفي الوقت ذاته سمحوا له أن يبقى متوليا بنفسه زمام الحكم على كل البلاد.
فقام كانيوت يدبر شئون الأحكام، ويعمل على اتساع نطاق نفوذه بغاية الضبط على وجه السداد والإنصاف، متعمدا في سائر الأحوال والطرق صيانة حقوق السكسون وامتيازاتهم بنوع لا يجعل بينهم وبين الدانمارك أدنى فرق، وكان يخشى على حياة بني أدموند عنده، لكن السياسة التي اختطها للسير والتصرف خولت السكسون راحة واطمئنانا من نحوهم، وبالواقع لم يسئ إليهم بل أرسلهم إلى بلاد الدانمارك لكي ينسى أمرهم على التمادي، ولعله أراد بذلك أنه إذا دعت الحاجة يدبر هناك طريقة سرية لهلاكهم، وكان لديه سبب آخر يحدوه على وقايتهم ويحول دون اغتيالهم، وهو أن هلاك بني أدموند لا يميت حق السكسون في الملك، بل يحوله إلى ابني أما في نورماندي اللذين يترقبان الفرص للقيام على منازعته واغتصابه الملك، فكان من باب الحكمة أن يبقى أولاد أدموند أحياء، ويجلبوهم إلى حيث يأمن الاهتمام بهم.
أما احتسابه من جهة ابني أما فكان على غير طريقة، فإنه لكي يسقط حقيهما في الملك ويضعف قوتهما ارتأى أن يطلب الاقتران بوالدتهما، وبذلك يجعل عائلتهما تحت قبضة يده، ويحول دون قيام أصدقائها النورمانديين ضده، وبناء عليه طلبها، وهي لشدة طمعها في استرجاع مقام عظمتها السابق كملكة إنكلترا أجابت طلبه بلا تردد، وإن العالم ليدينها على تزوجها للمرة الثانية بمنازع أشد وعدو ألد لزوجها الأول، ولكن لم يكن ذلك ليهمها البتة، بل قصارى ما احتفلت به أن تكون ملكة سواء كان زوجها سكسونيا أو دانماركيا، فاستاء ابناها من هذا الاقتران وبذلا جهدهما في منعه، ولم يصفحا لوالدتهما عن ارتكاب هذا الإثم الفظيع، ولا غفرا لها تدنيها لتضحية صالحهما وحقهما، وقد ملأهما غيظا ونكاية ما تقرر في عهدة الزواج من أن وراثة الملك بعد كانيوت تكون لمن يولد له من أما التي ما لبثت أن ودعت نورماندي وابنيها، وشخصت إلى إنكلترا حيث احتفل بزفافها إلى كانيوت بغاية التجلة والاحتفاء، وخلا لها الجو مرة أخرى في أن تعود ملكة الإنكليز.
وقد اقتضت الضرورة الآن أن تجتاز بكلمات وجيزة مدة عشرين سنة من الزمان وهي تحيط بوقت ملك كانيوت الذي كان غاية في النجاح والسلام، وفي خلال هذه المدة كان أبناء أما لا يزالان في نورماندي، وقد ولد لها ابن آخر في إنكلترا دعي كانيوت باسم أبيه، لكنه يعرف في التاريخ باسم هارديكنيوت - وهذه الزيادة كلمة سكسونية معناها قوي - وكان لكانيوت وزير شهير يدعى غودون، وهو رجل سكسوني واطئ النسب، وله في تاريخ حياته قصة غريبة لا محل لإيرادها هنا، لكنه كان ممتازا في الحذق والدهاء وسائر الصفات السامية، وفي وقت موت كانيوت كانت له الأسبقية على جميع رجال الدولة في الوجاهة والنفوذ، أما كانيوت فلما حضرته الوفاة ووجد أن شمس حياته قد مالت به إلى الغروب.
وأنه من الضروري أن يرتب أمر الخلافة رأى أن الأحوط له السعي في إخراج معاهدته مع أما السابق ذكرها من القوة إلى الفعل، على أن هارديكنيوت الذي بموجب تلك المعاهدة يحسب خلفا له كان عندئذ ابن ست أو سبع عشرة سنة، وبالنتيجة قاصرا عن إدارة أحكام المملكة، وبناء عليه أوصى بالملك لابن أكبر يدعى هارلود رزقه قبل اقترانه بأما، وهذا كان مبعث انشقاق جديد، ومدعاة قلق حديث؛ لأن ميل السكسون وكذلك أصدقاء أما كان نحو هارديكنيوت، بينما كان الدانمارك يميلون لهارلود. أخيرا انتصر غودون لجانب هذا الأخير، فتثبت هارلود على العرش، وتركت أما وجميع أولادها الذين ولدوا لها من أشرلد وكانيوت في زوايا الإهمال والنسيان.
Неизвестная страница