وكانت مساكنهم قلاعا عظيمة مبنية على تلال رفيعة، ومهما يكن من حسن آثارها الباقية لهذا اليوم، فقد كانت غاية في عدم الترتيب والنظام، وكنت تراهم في غاية الفرح والابتهاج يوم كانوا يرون بعض أصدقائهم مسرعين إلى الالتجاء عندهم من وجه الأعداء، أو حينما يصقلون أسلحتهم ويعدونها استعدادا للخروج في أخذ ثأر أو شن غارة، وأما في وقت السلام فكنت تراهم بغاية الكدر والانكماش، ويصعب علينا في هذه الأيام أن نتصور فراغ تلك القلاع والحصون من وسائط الراحة وأسباب الأمنية، فإنها كانت مبنية - كما تقدم الكلام - في أماكن يتعذر الصعود إليها، وتلك الصعوبة الطبيعية من جراء الموقع كانت تزداد منعة وصعوبة، بواسطة الأسوار والأبواب والمعاقل والحفر والأبراج والجسور التي كانت ترفع بعد المرور عليها، فالأبواب كانت عبارة عن كوى في الحيطان على علو عشر أو خمس عشرة قدما من الأرض، ولها المرافئ تدلى من الداخل، فيصعد عليها الأصدقاء والأصحاب، أما من داخل تلك القلعة فكانت الأرض مرصوفة بالحجارة، والحيطان عريانة، والأغمية (السقوف) معقودة من حجارة غليظة، والغرف صغيرة بعضها فوق بعض طبقات متتابعة، وكانت على صغرها كالقبور والسراديب المظلمة لا يزينها شيء من شبابيك أيامنا الواسعة المبهجة التي فضلا عن فائدتها في إدخال النور إلى داخل البيت تمتع الناظر منها بالإطلال على المناظر الجميلة والمشاهد البديعة، ولم يكن كتب في تلك المساكن الموحشة، لا أثاث سوى الأسلحة، ولا مسرات غير المسكر والطيش بملاهي الأعياد والمواسم.
ولم يكن أمراء ذلك العهد وكبراؤه يستطيعون أن يشغلوا نفوسهم بأمر مفيد، فلم يروا شيئا أشهى إليهم من الحرب، وكانوا يشيحون بوجوه باسرة عن جميع وسائل الدأب وطرق السعي، فحراثة الأرض وتربية المواشي ومعالجة الصنائع والمعامل والمتاجر وغيرها من الذرائع التي يتوخاها الإنسان لنفع بني نوعه كانت بالكلية غير معروفة عندهم، بل محتقرة لديهم، ولك أن تستدل على صحة هذا القول من النظر إلى الباقين من ذريتهم في الوقت الحاضر، فإنهم حتى في نفس إنكلترا ينظرون هذا النظر، ويرتأون هذه الآراء، فبنوهم الأصغرون ينخرطون في سلك العسكرية البرية أو البحرية، ويصرفون حياتهم بالقتل والإفساد وبدون خجل، تحت ظلال الكسل وارتكاب القبائح والرذائل، وأما أن يتعاطوا للعمل سببا من أسبابه الحقيقية التي عليه يتوقف مجد إنكلترا وعظمتها، فذلك عندهم وصمة وعار أبديان؛ فالشاب الشريف منهم يخدم كأدنى الشعب في سفينة حربية، ويقبل على خدمته أجرة بدون أن يحتسب ذلك حطة لقدره، ولكن أن يبني سفينة حربية ويؤجر عليها يعده تعريا من شرفه، وسقوطا من رتبته.
وبالنتيجة فقد كان السلام للأمراء والأشراف في عصر وليم مدعاة القلق، ومجلبة السأم والضجر، فلم يكن يستكن لهم مضجع ولا يهنأ عيش بدون إصلاء نار الحرب وشهود مواقع القتال، وذلك لا ريب في أنه كان من جملة البواعث التي كانت تدفع الأمراء إلى المؤامرة على وليم، وشق عصا الطاعة له.
على أنه كان لهم سبب جوهري لمقاومته في حق الملك، وهو أنه كان يشق عليهم أن ينظروا من رجل كوليم واطئ النسبة، بل خسيسها ومرذولها من حيث الأم، وارثا لخلافة عظيمة كدوقية نورماندي، وقد اعتاد أعداؤه أن يقذفوه ويشنعوه بألقاب مستهجنة يشتقونها من مصادر حوادث ولادته، ومع أنه كان صبارا على الأذى، وكريما يعفو عن إساءة الآخرين، كانت تلك الإهانات المطبوعة على ذاكرة والدته كحمة تلسعه في جلده، وتستثير كمين ضغنه، ودفين حقده، وتحيي فيه روح الغل والكشاحة، ويؤيد ذلك هذه الحادثة - وقد وردت في أكثر تواريخ وليم المكتوبة - اتفق في أحد حروبه أنه زحف في البلاد لمهاجمة قلعة حصينة، كانت فضلا عن مناعة أسوارها وحصونها الطبيعية محصنة بحامية قوية كثيرة العدد، ولعظم ثقة هذه الحامية بشدة قوتها وكثرة عددها جردت إذ سمعت بقدومه فرقة لملاقاته، ليس لكي تفتح معه حربا جهارية، بل بقصد أن تكمن في الطريق وتفاجئ مقدمة جيشه على حين غفلة وهو غير حاذر عدوا قريبا، وبعيد عن نجدة باقي العساكر.
ولكنهم لم يجدوا كما عهدوا، فإنهم في الحال ذعروا من مكمنهم، ونكصوا على أعقابهم هاربين أمام وليم ورجاله الذين تأثروهم على الأعقاب، وبالجهد استطاعت تلك الفرقة أن تصل القلعة وترفع وراءها الجسور، وتوصد خلفها الأبواب في وجه المطاردين قبل أن أدركها وليم ومد عليها بعساكره مطمار الحصار.
أما حامية القلعة فامتعضت من خيبة تلك الفرقة امتعاضا، وملئت صدور عسكرها على إخفاق مسعاهم انكماشا وانقباضا، وقد أحفظهم أن تلك الفرقة لم تفشل في سعيها فقط، بل دحرت أمام عدوها لا تلوي إلا على الخزي والعار، ولم تنج من فتكه إلا بعد شق النفس، وقد تعقبها موقعا فيها الفضيحة والذل والانكسار، ولكي يسلوا سخيمتهم، ويميتوا ضغنهم، ويردوا على وليم الكيد الذي كادهم به صعدوا إلى أعالي الحصون والأسوار، ومن هناك أطلوا عليه وطفقوا يرمونه بأعلى أصواتهم بألفاظ الشتائم والمسبات، ويقذفونه بالإهانات والتعييرات حتى إذا فرغت منهم حياض الشتائم، ولم تبرد شيئا من غليل الضغائن والسخائم، عمدوا إلى مشترى ما استطاعوه من الأدم «جمع أديم وهو الجلد الأحمر المدبوغ» ومآزر الحور «السختيان» وغيرها مما له علاقة بصناعة الدباغة، وأخذوا ينشرون بأيديهم على مرأى وليم وعساكره، وهم يجهدون بأصوات التهكم والاستخفاف كأنهم يذكرون وليم بجده أبي أمه الدباغ، حتى أوغروا صدره حردا واحتداما، وغادروا مراجل السخط تضرم في قلبه إضراما، واضطروه أن يشير في الحال إلى فرقة من رجاله بهجوم شديد، فكروا كر الصناديد، واندفعوا بقوة التحمس ينقضون انقضاض البواشق، وينشبون نشب الصواعق، وإذ لم يقع في أيدهم أحد من حامية القلعة المنظمين داخلها استعاضوا عنهم بمن وجدوه من القلعة خارجها، وأتوا بهم أسرى بين يدي وليم، فأمر في الحال أن يمزقوا قطعا قطعا، ويرموا بالمقاليع الكبيرة من فوق الأسوار إلى داخل القلعة.
وفي أثناء هذه المدة التي يحيط هذا الفصل بتاريخ حوادثها في فترة الحروب النورماندية التي كان وليم يتمتع بسلامها وسكونها بعض الأحيان، حدث أن هنري ملك فرنسا عصت عليه بعض مقاطعاته، فخرج وليم بجيش من النورمانديين يشد أزره في إخضاعهم، فسر هنري في البداءة وشكر لوليم على هذه الأريحية والمساعدة في إبان الاحتياج إليها، لكنه ما عتم أن غمطها، وأخذ ينظر بعين الغيرة والحسد إلى ما حازه وليم من علو الشهرة ورفعة الشأن وهو بعد لدن الإهاب غض الشباب غير متجاوز الأربع والعشرين سنة، ويده تدبر حركة القيام بكل شيء بمزيد السرعة وغاية النشاط والدقة، فكان يشهد معامع القتال، ويخوض المعارك بعزم أسود الدحال، ويدير الحصار بإرشادات تحير العقول، وشجاعة تخور لديها عزائم الأبطال، حتى استمال إليه قلب كل إنسان، وأصبح موضوع مدح أبناء ذلك الزمان سوى الملك هنري، فإنه طوى قلبه على البغض له والحسد، إذ وجد أنه قد خلفه بل سلبه حق الاعتبار والاحترام الذي كان يناله من الشعب، وأمسى لديه أهون من النقد، وأذل من بيضة البلد.
وكان يظهر من بعض الحوادث الخصوصية شجاعة لوليم تقضي على عساكره بالعجب والاستغراب، وتحدوهم على الهتاف بأصوات الاستجادة والاستحسان، وهذه كانت تشاهد منه في الغالب عند إقدامه على صفوف الأعداء، أو نجاته من مطاردين تفوق كثرتهم الإحصاء، وقد كان لحسن الحظ وسعد الطالع يد في توليد هذه النتائج ربما أطول من يد القوة والشجاعة، ولعل حسن حظ الجندي في تلك الأيام كان على مدحه باعثا لا يقل عن باعث قوة عضلاته وشجاعة قلبه، وبالحقيقة إن هذا الاعتبار في محله، وهو حق لا ريب فيه؛ لأن قوة الذراع وبرودة الشجاعة بل ضراوتها وغيرهما من مسببات الكر والإقدام في ساعات الحروب هي صفات أخلق بالوحوش منها بالناس؛ لأننا إنما نستحسنها في الأسد أو النمر، ولكننا نحكم بشجبها ولعنها حينما يستعملها الإنسان ضد أخيه الإنسان منساقا بفجور البغض ودعارة الانتقام.
وإليك واحدة من طرف نجاح وليم الخارق العادة؛ وهو أنه أراد مرة أن يتجسس أعداءه، فذهب مصحوبا فقط بخمسة أمراء من حرسه الخاص حتى أشرفوا على معسكر العدو، وفي زعمهم أنهم غير مراقبين، ولكن وقعت عليهم العين في الحين، وانتقي اثنا عشر من الفرسان المعدودين وأنفذوا للإيقاع بهم على الطريق، فسارت هذه الفرقة وكمنت لهم في مكان كان لا مندوحة لهم عن المرور به، حتى إذ دنوا منه طلعت عليهم، وأمرتهم أن يسلموا قبل أن يتكلموا؛ لأن الستة أمام الاثني عشر لا ترى غير الفرار سبيلا، وليست المقاومة تجديها فتيلا، على أن عزة النفس وثبات القلب في وليم أبيا إلا الإقدام والهجوم على الكمين، فهز رمحه وقومه، وهمز جواده وأقحمه، حتى صار قدام مقدم الفرقة فابتدره بطعنة أكبته على الحضيض، ووهبته أن يسر إلى الأرض مركاس الجريض، ثم أعادها على من تلاه، فصرعه مجندلا على قفاه، وعند ذلك اقترب إليه حرسه الخمسة مكبرين متحيرين.
وكان قد نما خبر الواقعة إلى جنوده، فعدا لإغاثته نخبة من أبطاله المجربين، أما العشرة الذين سلموا من فرقة الكمين، فأركنوا إلى الفرار ووليم وحرسه يجدون في تأثرهم، فأدركوا سبعة منهم وشدوا وثاقهم، والثلاثة الباقون لم يستطيعوا لحاقهم، فرجع وليم ورجاله بالأسرى يطلبون الخيام، وفي طريقهم التقوا بالملك هنري يتقدم ثلاثمائة رجل من عسكره مسرعا إليهم، وإذ ذاك كان لوليم من رؤية نفسه راجعا منصورا، ومن استماعه حرسه الخمسة يقصون أخبار بسالته وثبات جنانه في ذلك الخطر، ومشاهدته جميع القواد والعساكر يضجون بأصوات تعظيمه - أسباب جوهرية تحمله على العسكر براح الابتهاج، وتبعث بالملك هنري على تجرع ما من دونه المر الأجاج.
Неизвестная страница