История коптской нации
الهدية التوفيقية في تاريخ الأمة القبطية
Жанры
لقد ألمعنا - في الفصل السابق عند سياق الكلام على تاريخ نشأة النهضة الثالثة - أن الذين قاموا بها وكانوا سببا في إضرام نارها التي تأججت وعلا سعيرها، هم بعض نوابغ الأمة ونخبة الطائفة الذين دفعتهم عوامل الغيرة، واستفزتهم بواعث المروءة، فالتأموا معا واتحدوا جميعا لإتمام هذا العمل الجليل والمشروع الرفيع الخطير، وقد استصوبوا - حبا في نشر مبادئهم وتوجيه أفكار الجمهور إليهم - أن يطلقوا على أنفسهم اسم «جمعية التوفيق» الاسم الذي انتقوه دون غيره تفاؤلا وتيمنا باسم الحضرة الخديوية التوفيقية «لأن الجمعية قد تأسست في عهد سمو الخديوي الأفخم توفيق باشا» الذي رأت الجمعية من سموه - رحمه الله - من تمام الرضا عن مشروعها ما حدا بأعضائها إلى إطلاق هذا الاسم الكريم واللقب الشريف عليها.
أما الباعث الحقيقي والغرض الأصلي من تأسيس هذه الجمعية الإصلاحية الخيرية التي ظهرت بين ظهرانينا، وانتشرت في سائر أنحاء وأرجاء قطرنا، واشتهرت في جميع أصقاع وبقاع بلادنا، فهو إصلاح شئون الطائفة القبطية والسعي فيما يعود عليها بالنفع العميم والخير الجسيم. هذا ولقد رأت الجمعية بعد طول الاستقراء والاستقصاء، وزيادة التنقيب والتنقير أن أهم اللوازم المفتقرة إليها الطائفة، والمضطرة إلى إصلاحها كل الاضطرار منحصرة في ستة أمور لا سابع لها على الصحيح وهي: (1) تنظيم المدارس. (2) إصلاح الكنائس. (3) تنوير الإكليروس. (4) إحياء اللغة. (5) افتقاد الفقراء. (6) محو بعض العوائد القبطية السمجة القبيحة التي تمجها الأسماع السليمة وتأباها النفوس الأبية.
ولقد ظهرت نفحات أتعاب الجمعية وثمرات مساعيها في إصلاح أوجه الخلل الموجودة في جل هذه الستة أمور إن لم أقل كلها، كيف لا وهي هي أول من وجه الأنظار ونبه الأفكار إلى مدارسنا القبطية والنظر في أمر إصلاحها وتنظيمها، وقد حصل ذلك فعلا فأتي لها بأساتذة جهابذة ذوي إلمام تام، فظهرت نجابة الطلبة واكتسبت المدرسة سمعة كريمة وشهرة عظيمة وفخرا كبيرا. وهي هي أول من رفع صوته في الملأ صارخة ومنادية بتأخر إكليروسنا، وطالبة وجوب تنويرهم وتهذيبهم، فلم يسمع لندائها بادئ بدء، ولكن لم تلبث الطائفة أن شعرت بلزوم ذلك، وها قد سمعنا بإنشاء المدرسة الإكليريكية التي نرجو لها ومنها نجاحا تاما وإصلاحا مهما، وهي هي أول من قامت تنوب وتناضل عن حقوق إخواننا الفقراء الذين أناخ عليهم الدهر، فجعلهم هدفا لنباله الشديدة الوطيئة، وهي هي التي قالت بلزوم الوعظ في الكنائس ولو أسبوعيا على الأقل، وهي هي التي نهضت أخيرا وطلبت تشكيل المجلس وقد تم ذلك كله فعلا، إلى غير ذلك من الإصلاحات والنفحات الحميدة والثمرات العديدة المفيدة التي يحول دون سردها وتعدادها برمتها ضيق نطاق هذا الكتاب الصغير.
هذه هي رغائب جماعة التوفيق التي شرعوا في إنجازها، وسيقومون بأداء وإجراء أعظم منها في المستقبل إن شاء الله تعالى، أما الآن وقد علمنا تلك الرغائب ووعيناها فيجمل بنا إذن أن نميط النقاب عن مآرب الحزب الإكليريكي الواقف لها بالمرصاد كحجر عثرة في طريق تقدمها؛ حتى يتضح للقارئ ما انطوت عليه ضمائر أصحاب هذا الحزب من النوايا الخبيثة والمآرب السيئة فنقول: لا ريب أنه من كان حر الفكر منزها عن الغرض، يحكم لدى أول وهلة بأن هؤلاء القوم الذين تصدوا لمعارضة نصراء الإصلاح وإحياء الخير، لا بد وأن يكونوا من طبقة الجهلاء الذين لم يتثقفوا ويتنوروا، فكانت معارضتهم ومقاومتهم ناشئة عن جهلهم بمزايا وفوائد هذا الإصلاح، أو أنهم ربما كانوا يعرفون تلك المزايا والفوائد ولكنهم يتجاهلون معرفتها لغاية في النفس يرومون قضاها. وهذا القول ينطبق كل الانطباق على حضرات إخواننا المعارضين. أما القسم الأول يعني الذين يجهلون مزايا هذا الإصلاح وفوائده فهم كثيرون، ولكنهم من الطبقة السفلى الذين لا يعتد بهم ولا يعول عليهم، ولا يركن في أي أمر إليهم. وأما القسم الثاني - يعني الذين يعرفون ما سينجم عن هذا الإصلاح من الفوائد الجمة والمزايا المهمة، ولكنهم يتجاهلونها لغرض في النفس - فمآربهم مختلفة ونواياهم متنوعة باختلاف أحوالهم ومراكزهم؛ فمنهم من هم من أقارب غبطة البطريرك فتدعوهم دواعي القرابة لموافقته ومصادقته على كل عمل يبدو منه ظاهريا، ولو كانوا لا يستصوبونه باطنيا ، ومنهم من هم تحت إدارته وسلطته كبعض مستخدمي المدارس القبطية الذين تلجئهم حالتهم المعاشية أن يذعنوا لأوامره ونواهيه، ومنهم من كانوا من الإكليروس، وهؤلاء فضلا عن جهلهم وتغفلهم فإن شئون مراكزهم الكهنوتية تضطرهم للإذعان والرضوخ والطاعة العمياء، ومنهم من كانوا ينتفعون من بقاء الحالة على ما هي عليه لئلا يفتضح أمرهم وينكشف سر مكرهم وخداعهم، فيقعون في شر أعمالهم، ومنهم من أعمت الرشوة أبصارهم وبصائرهم، وأخذ رونق الدرهم الوضاح والذهب الرنان بمجامع ألبابهم وقلوبهم؛ فأصبحوا أسراء إحسان وكرم غبطة البطريرك الحاتمي، وصاروا ينادون بلسانه ويدافعون عن مصالحه.
على أننا لو سألنا ضمائرهم لقالت بعكس ما يقولون، ويندرج تحت هذا النوع الأخير بعض أصحاب الجرائد المحلية، ونخص منهم بالذكر حضرة التقي المتدين صاحب جريدة الوطن الذي أسدلت الرشوة على بصر بصيرته برقع التعصب فقام يجاهر بالعدوان ضد حضرات المصلحين الأفاضل، وإني أذكر هنا على سبيل الفكاهة نادرة جرت بيني وبينه جاءت شاهد عدل على صحة ما نقول، ألا وهي أني كنت كتبت بجريدة المقطم الأغر سؤالا بسيطا تحت عنوان «سؤال ذو بال» طلبت فيه من الذين يعنيهم أمر الإصلاح أن يجاوبوني عن: «ما هي المطبعة المقصودة بالذات من المادة 8 من لائحة المجلس الملي؟» فجاء جواب سؤالي في العدد التالي ومؤداه أن المطبعة المذكورة هي المطبعة التي هي تحت يد صاحب الوطن يطبع بها جريدته مجانا ... وقد وهبها له غبطة البطريرك - حفظه الله - على سبيل المكافأة لقيامه بخدمته خير قيام، فهال هذا الأمر أو بالحري كشف هذا السر المستقر صاحبنا صاحب جريدة الوطن، فانقلب علي بالهجو والقدح الذي كان برهانا آخر على صحة هذا الأمر، فألجأتني الضرورة - وللضرورة أحكام - أن أرسلت إلى جريدة المقطم رسالة أعربت فيها عن زيادة ارتياحي من الوقوف على هذه المسألة، وشكرت همة من أطلعني على حقيقتها، واستطردت القول إلى الرد على كلام صاحب الوطن - هداه الله - ولكن لسوء حظي لم تدرج رسالتي بالمقطم لأسباب لست والله أعلمها، وها أنا ألخصها لحضرات القراء النبلاء وهي بنصها:
حضرات أصحاب جريدة المقطم الأفاضل
أبعث إليكم برسالتي هذه وأنا أعلم علم اليقين بأن جريدتكم أرفع شأنا وأسمى مقاما من أن تكون محطا لرحال الطعن والتنديد، شأن جريدة عربية ساقطة الاعتبار تدعى جريدة الوطن التي امتهنها كبار القوم واستهجنها صغارهم؛ إذ أضحت ولا ديدن لها إلا السب والشتم والقدح والهجو، ولا هم لمحررها إلا اختلاق الأراجيف والتمويهات. وكأني بها قد آلت على نفسها أن لا ترتدع عن غيها وتعدل عن منهجها الذميم الوخيم، ولكن لا غرور ولا عجب فهي هي الرشوة تعمي الأبصار والبصائر، وقانا الله من شر كل منافق ومكابر مهاتر.
هذا ولقد كنت أنتظر بفروغ صبر عندما كتبت سؤالي الأخير بجريدتكم أن يقال لي إن صاحب جريدة الوطن يدفع أجرة مقررة على طبع جريدته بالمطبعة الأهلية للبطريكخانة القبطية، أو غير ذلك من الأعذار التي ربما كنا قابلناها بالقبول. ولكن يأبى الله إلا أن يحق الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا؛ فقد أنبأني في اليوم الثاني أحد أفاضل الأمة الذين يغارون على نصرة الحق، ويقررون الوقائع على علاتها، غير خاشين في تقريرها ونشرها لومة لائم «أو قدح منافق سفيه» أن غبطة البطريرك قد سلمها - أو بالحري - أهداها لحضرة إبراهيم أفندي الذي وهبها لصاحب الوطن، ولا يبعد أن نسمع يوما ما أن صاحب الوطن يجاهر على رءوس الملأ بأن هذه المطبعة من ضمن ممتلكاته الخصوصية، وما ذلك - وايم الحق - على مثله ببعيد.
وإني - وشرف الإنسانية - أعجب غاية العجب من ذلك؛ إذ كيف يسوغ لغبطة البطريرك أن يسلم أموالنا وأوقافنا لرجل ليس هو من طائفتنا ولا هو على شاكلتنا؛ فضلا عن كفره بنعمتنا وجحوده لجميلنا، فهل يوجد بعد ذلك دليل أقوى من هذا على تصرف أولئك القوم في أوقافنا تصرفا مطلقا يبددون فيها كيفما شاءوا ولا حساب هناك ولا عتاب، فحتام حتام لا نسعى في لم شعث أوقافنا التي تبدد أغلبها أيدي سبا. ألا قاتل الله الجهل والطمع فإنهما ولا شك سبب هذا الوبال الوبيل، وهل بعد ذلك يجوز لنا أن نقول أن ليس للمجلس الملي فائدة أو أن وجوده إن هو إلا بدعة من البدع أو ندعي «بغير تبصر وتدبر» أنه مخالف للدين والقوانين الكنائسية، ألا نخشى من الله! ألا نخجل من الحق! ألا نستحي من الناس! ألا تبكتنا ضمائرنا! مع أن المجلس لو كان موجودا أو منتبها لأعماله لما حصل مثل هذا النهب والسلب الذي ليس له في عالم الوجود مثيل. فالمجلس المجلس يا أبناء الطائفة القبطية! لا تقدم لنا إلا بالمجلس، ولا ترقي لملتنا إلا بالمجلس، ولا إصلاح لحالتنا إلا بالمجلس، ولا حفظ لأموالنا وأوقافنا إلا بالمجلس، ولا تنظيم لكنائسنا ومدارسنا إلا بالمجلس، ولا تنوير لإكليروسنا إلا بالمجلس، ومن أنكر علينا ذلك فليأتنا ببرهانه إن كان من الصادقين، وإلا فليصمت ويكف عن الادعاء بالباطل؛ فقد ظهر الحق لذي عينين، وهيهات أن تجد لإخفاء نور الحق الساطع سبيلا.
هذا ولا يسعني هنا إلا أن أختم عجالتي هذه بإبداء مزيد التعجب من تصرف جريدة الوطن، وملازمتها لجادة القباحة والوقاحة التي لم يعهد لها نظير؛ ولا غرو «فكل إناء بالذي فيه ينضح» وكل شجرة لا تثمر إلا ما عندها، فلا نجني من الحسك عنبا ولا من الشوك تينا، ولكن ليعلم صاحب الوطن، ومن كان على شاكلته من الذين باعوا ذمتهم بدراهم معدودة أننا لا نكف عن مطالبتنا بحقوقنا ما دام دمنا يجري في عروقنا، وها نحن واقفون له بالمرصاد نشهر ونفند تمويهاته واختلاقاته، وننادي بها على رءوس الأشهاد في كل صقع وناد، وإلا فليصمت ويلازم جادة الحيادة؛ فإن نخوتنا تأبى إلا إظهار نفاق المنافقين، والأمر الذي هو من الغرابة بمكان أن المشهور عن إخواننا الأمريكان أنهم قوم اتصفوا بكريم الشيم وجميل الشمائل، فكيف يرضون أن يقبلوا بين أعضاء كنيستهم رجلا هذه صفاته وتصرفاته؟! ألعلهم هم أيضا غير راضين عن أعماله؟! وإذا كان ذلك كذلك ولا نخاله إلا كذلك؛ فأناشدكم الله ماذا ينتظر من رجل كرهته الأقارب، ولم ترض عنه الأباعد ومقته القريب والغريب؟ ليحكم العادلون ولينصف المنصفون.
Неизвестная страница