علم القراء مما تقدم أن أملاك قرطاجة كانت ممتدة على سواحل البحر الأبيض المتوسط من إقليم طرابلس الغرب مما يلي حدود مصر من جهة الغرب إلى مصب نهر إيبر بإسبانيا؛ أي على مسافة تسعمائة فرسخ تقريبا، لكن كانت سلطتها فعلية على السواحل فقط غير ممتدة إلى داخلية هذه الأقاليم المتسعة التي تسكنها عدة قبائل متبربرة، فكان يسهل على أعدائها إنزال جيوشهم إلى أي نقطة أرادوا إن كانوا آتين من الخارج، أو على احتلال السواحل إن كانوا من القبائل الداخلية؛ إذ إن قرطاجة كانت لا تهتم مطلقا بإخضاع البلاد التي تفتحها إخضاعا حقيقيا، بل تكتفي بإلزامهم بمشترى بضائعها والاتجار معها فقط، هذا من جهة حكومة قرطاجة ومستعمراتها.
أما الحكومة الرومانية فكانت على الضد من ذلك بالكلية في غاية الانتظام متقاربة الأجزاء تربطها السكك الحربية وتتخللها المستعمرات، وغالب سكانها تجنسوا بالجنسية الرومانية بحيث صاروا أعضاء عاملين في الحكومة كسكان رومة نفسها لا رعايا مستعبدين إلا اليسير منهم، هذا فضلا عن عدم التباين الشديد في العوائد واللغات؛ إذ إن سكان إيطاليا أجمعها كانوا من أصل واحد تقريبا، وتغلبت عليهم عوائد الرومانيين فصار الكل جسما واحدا ومدينة رومة بمثابة القلب لتوسط مركزها.
وباحتلالها الجزائر القريبة منها صارت آمنة من مهاجمة الأعداء بحرا؛ إذ كانت تلك الجزر كنقط أمامية تمنع كل عدو مفاجئ، وباحتلالها شواطئ البحر الأدرياتيكي الشرقية اتقت شر الأليريين وأخضعتهم وصارت قريبة من بلاد الإغريق.
كل هذه الأسباب والدواعي كانت تميز الحكومة الرومانية عن القرطاجية، وتضمن لها الفوز عليها بكل تأكيد.
تلك كانت حالة هاتين الدولتين المتناظرتين المتنازعتين للسيادة على البحر الأبيض المتوسط والبلاد الواقعة على شواطئه في سنة 219، ولذلك كانت قرطاجة تخشى محاربتها، وتتوقى الأسباب التي توجب الشحناء والنفرة والجفاء بين الحكومتين لعدم وثوقها من الفوز والانتصار.
أما أنيبال قائد جيوش إسبانيا فلم يكن من هذا الرأي، بل كان يعتقد الفوز والنجاح على الرومانيين ويطمع في محاربتهم لفتح بلاد غاليا الجنوبية وإيطاليا نفسها إن أمكنه ويجعل نفسه ملكا مستقلا عليها، فصرف جل اهتمامه لإخضاع القبائل الإسبانية المستوطنة في الجبال الوسطى واحتل مدينة طليطلة، ولما تأكد من خضوع سكان إسبانيا وأمن نزوعهم إلى الثورة لو ترك بلادهم لمحاربة الرومانيين؛ جهز جيشا جرارا من نحو مائة وخمسين ألف مقاتل وحاصر مدينة (ساجونت) الواقعة على شاطئ نهر الإبر، والتي كانت اشترطت في المعاهدة التي بينها وبين ازدروبال في سنة 227ق.م حفظ استقلالها وعدم مس حريتها قاصدا بنكث هذا العهد والخروج عن نصوصه إلزام رومة بمحاربته، ثم شدد عليها أنيبال الحصار ودخلها عنوة بعد ثمانية أشهر فوجدها مشتعلة بالنيران؛ إذ إن أهلها فضلوا حرقها وتدميرها عن تسليمها إلى الأعداء.
1
ولما علمت رومة بهذا التعدي المخالف للعهود والمواثيق؛ أرسلت وفدا إلى أنيبال تذكره بها وتحذره سوء العاقبة، وآخر إلى قرطاجة لاستصدار الأوامر إلى هذا القائد بالعدول عن محاصرة (ساجونت) فعاد الوفدان بلا فائدة.
فأرسلت بعض أعضاء السناتو ثانيا إلى أنيبال، وكان من ضمنهم شهم يدعى (فابيوس) فلم يصغ إلى طلباتهم وأصر على عناده وتمادى في غروره فقال له فابيوس: إني أعرض السلم والحرب عليك فاختر أيهما يحلو لديك، فأجابه أنيبال: إن الاثنين عندي سواء فاختر أنت ما تريد، فقال فابيوس: الحرب الحرب، وعاد هو ومن معه إلى بلاده، وكان ذلك هو سبب الحرب البونيقية الثانية التي استمرت ثمان عشرة سنة، وكانت عاقبتها وخيمة جدا على قرطاجة، فقد فقدت فيها أهم جيوشها البرية والبحرية وجزيرة إسبانيا حيث فتحتها رومة وأدخلتها ضمن أملاكها، وصارت قرطاجة عرضة لهجمات الرومانيين لا سفن ولا جنود تمنع وصولهم إليها أو شن غاراتهم عليها.
وبمجرد إشهار الحرب بالكيفية السابقة ساق أنيبال جيوشه إلى جبال بيرينيه الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا؛ لأنه اتخذ في هذه الحرب للوصول إلى بلاد الرومان طريقا لم يسلكه أحد قبله وهو طريق البر من جنوب فرنسا إلى إيطاليا؛ وذلك لتعسر الوصول إليها بحرا بسبب احتلال الرومانيين أكبر جزائر البحر الأبيض المتوسط وأغلب جزائره الصغيرة.
Неизвестная страница