يبدو أن الإنسان الأول كان يزين جسمه بالحلي قبل أن يكسوه بالملابس، على نحو ما يفعل الهمجيون الآن؛ وذلك لأن الإنسان أطوع لعامل غروره وكبريائه منه لعامل حاجته، أضف إلى هذا أن الإنسان الأول، لما كان له من الشعر الوفير لم يكن في حاجة إلى اللباس، وإنما نشأ هذا من الزينة على توالي الزمن، على أن بعض الهمجيين الآن لا يعرف من اللباس إلا الوزرة التي تستر عورته، أو قد لا يعرفها أحيانا، ولكنه مع ذلك يعرف كيف يزين رأسه بريش الطيور، وكيف يعلق قلائد الصدف والودع حول عنقه، وكيف يحز الحزوز المختلفة حول جسمه، ومنهم أيضا من يعرف الوشم، والحز والوشم كلاهما من ضروب التحلي، وفي إنجلترا تعيش طائفة من الصيادين ببيع الصدف، وهي تصيده للتجار، وهؤلاء يقايضون به زنوج أفريقيا في الغرب على سلعهم المختلفة.
على أن أقدم ما يعرف من الحلي وجد في مصر، فقد كان من عادة المصريين أن يضعوا مع الميت بعض أدواته أو أمثلة مختصرة منها إذا ضنوا بالأصل أن يوضع في القبر، وكانت الحلي المصرية بين أصناف الحلي القديمة، وقد كانت هذه الحلي رمزية في معناها مما يدل على أن القصد لم يكن التحلي ليس غير، وإنما كانت هناك غاية سحرية أخرى كوقاية الجسم مما يضمره عدو أو مرض تجلبه الآلهة، فكانت الأقراط والقلائد والأساور تصنع على جلود الثعابين أو صقور لها وجه إنسان أو غيره، وكان الذهب يستعمل لهذه الغاية، ولم يكن يتحلى به سوى فئة قليلة جدا من الناس، وكان المصريون يستعملون الزجاج الطبيعي الذي كان يتكون من انهيار بعض الأحجار وتبلورها في باطن الأرض، وكانوا يتزينون بقطع صغيرة منه كما نتزين الآن بالجواهر، وقد أبدى المصريون براعة عجيبة في صنع الحلي مع قلة وسائل الصناعة يومئذ في ذلك الوقت؛ إذ لم يكونوا يعرفون الحديد وقد عرفوا النحاس قبيل المسيح بمدة كبيرة، وكان الفينيقيون جوابين للآفاق بلغوا إنجلترا بسفنهم، وبعضهم يقول إنهم استعمروا جزءا منها.
الفصل الثامن عشر
الفن
الفن، لغة: النوع أو الحال أو الضرب من الشيء، والجمع أفنان وفنون. وافتنان الكلام اشتقاقه في فن بعد فن . والمفتن والمتفنن وذو الفنون والمفن «بكسر ففتح»، الذي يأتي بالعجائب وبضروب فن الكلام. والفنان «بالتشديد» الحمار الوحشي، وإطلاقها على الرجل المفن رجل الفن شائع في لغة الكتاب العصريين، مع أن العرب لم تقل ذلك.
وبينما الفن مادته الفكر والنظر، فإن العلم مادته العمل والأثر، وقد يكون للشيء الواحد علم وفن؛ فالموسيقى «علم» حين ندرس قضاياها العامة كتقسيم النغم، والموسيقى «فن» حين يتصرف المطرب في فنون النغم، والبلاغة «علم» حين تتحدث عن أحكام الفصل والوصل والإيجاز والإطناب وما إلى ذلك، والبلاغة «فن» حين يرسل الكاتب قلمه بالمقال البليغ.
هذا و«الفن» اصطلاحا لفظ مرن، في معناه الأوسع هو كل شيء ليس طبيعيا، بل من صنع الإنسان وهو، على هذا، يشمل المصنوعات والبلاغة والقصة، وكل ما هو نافع أو لذيذ، وما يجمع بين المنفعة واللذة كالميكانيكيات والآداب الرفيعة والهندسة المعمارية والحفر والنقش والزخرفة والرقص والموسيقى والشعر والغناء، أما الفن في معناه الضيق، فهو ما يصنعه أو ما يقوله الإنسان ثمرة للمواهب والكفاية المثلى من أجل المتعة النفسية في ذاتها؛ أي من غير أن يكون وسيلة إلى شيء ينتفع به في الحياة العملية.
وقد عرف الإنسان البدائي ساكن الكهوف الفن قبل عصر التاريخ، فلم يقتصر جهد سكان الكهوف في عصر الحجر، عند صنع الأدوات والأسلحة من الحجر ورءوس السكاكين والقوس من العظام، بل كانوا ينقشون على أيديها العظيمة أشكالا حيوانية كالماموث ووحيد القرن والإبل، ومن هنا نشأت فكرة محاكاة ما في الطبيعة بالنقش والحفر وما إليهما؛ استطابة للذة الفنية ونشدانا للمتعة النفسية.
والفن، على هذا، كل عمل أو مهارة منظمة ترمي إلى تتبع الكائنات النظامية، وإلى أهداف تعرف مقدما اتباعا لقواعد كل عمل واستخداما للمهارة ونتيجتها.
وعند «عبد المنعم أبو بكر» أن الفن كلمة يخص بها عادة أشياء مختلفة متباينة، فالتمثال قطعة فنية، والنقش قطعة فنية، والرسوم سواء ما كان منها بالزيت أو بالألوان الأخرى قطع فنية أيضا، ثم الموسيقى فن، والشعر فن، والنثر فن، وكذلك التلحين فن، والغناء فن؛ إذن فالفن هو كل ما يخرجه لنا ذوق الإنسان ليرضي به غريزة فيه لا يمكن أن نسميها إلا غريزة الفن، إذا صح هذا التعبير، ونحن إذا أنعمنا النظر في غرائز الحيوان والإنسان رأيناها متشابهة في الأصل، ذلك الأصل الذي يدفع بكل من الإنسان والحيوان إلى هدف واحد وهو البقاء، والمحافظة على ذلك بالأكل والشرب، ثم بالمدافعة عن النفس، ولكن الطبيعة اختصت الإنسان بغريزة أخرى هي «غريزة الجمال»، أو قل غريزة الذوق السليم؛ فالإنسان الذي يصنع مثلا إبريقا من الطين أو الحجر كي يملأه ماء للشرب، كان في بدء حياته الأولى (أقصد بذلك الإنسان الأول) يصنع إبريقا يصلح لاحتواء الماء، أما شكل هذا الإبريق الخارجي فيحتمه الغرض الذي من أجله صنع ثم الآلة التي صنع بها، ولكن سرعان ما تظهر الغريزة الأخرى، غريزة الذوق السليم، فتراه قد طلى هذا الإبريق بلون أحمر، أو أحرقه في النار حتى يكتسب ملاسة لامعة، أو رسم على سطحه الخارجي صورا مختلفة لا علاقة بينها وبين ما يحويه الإبريق.
Неизвестная страница