هذا واللغات الحية تختلف عن اللغات السابقة كاللغة السريانية عن الكلدانية القديمة، والإيطالية عن اللاتينية، والقبطية عن المصرية القديمة والسريانية والكلدانية القديمة أو الآشورية لغة واحدة، واليونانية الحديثة واليونانية القديمة لغة واحدة. أما من حيث حيوية اللغة، فعندنا أنها لا تعد حية إلا متى كانت خاضعة للنواميس المتسلطة على الأحياء وأهمها النمو والدثور. فاللغة لا تنمو إلا إذا كانت شائعة على ألسنة العامة. (1-6) هل اللغة هي ميزة الإنسان؟
عرف المنطقيون الإنسان تعاريف مختلفة، فقالوا إنه «حيوان ضاحك»، فلما وجدوا بعض أنواع القردة تضحك عدلوا عن هذا التعريف، وقالوا إنه «حيوان اجتماعي»، فلما وجدوا بعض أنواع الحيوان كالكراكي وغيرها تجتمع مئات وألوفا في أماكن معلومة في أزمنة معينة، كأنما تعقد مؤتمرا أو مجمعا سياسيا أو ندوة علمية قالوا إنه «هو حيوان منتصب القامة»، فلما وجدوا بعض القردة تنتصب مثل انتصابه، قالوا إنه - الإنسان - «حيوان صانع»، ولما رأوا بين أنواع الحيوان ما يستطيع أن يقوم بصناعات يعجز عنها، قالوا إنه «حيوان كاتب»، ولما اعترض عليها بأن الكتابة ليست صفة لازمة للإنسان قالوا إذن هو «حيوان ناطق». أما المنطق فلا يراد به مجرد التكلم أو التفاهم إذ قد يكون بين بعض أنواع الحيوان لغة يتفاهم بها أفراده. ولعل نباح الكلب ومواء الهر وخوار الثور وصهيل الفرس، ونهيق الحمار وتغريد الطيور ونقيق الضفدع؛ لغات يتفاهم بها أفراد كل نوع منها فيما بينها؛ إذ لا يشترط في اللغة أن تكون أصواتها مقطعية.
على أن أصوات الإنسان إذن امتازت بتقطعها، ففي بعض أنواع الحيوان خصائص صوتية يقصر عنها الإنسان كأصوات بعض الطيور والهوام، فامتياز أصوات الإنسان بالمقاطع لا يجعلها منفردة، ولا يمنع وقوع التفاهم بين سائر أنواع الحيوان.
فالنطق الذي ميزنا به الإنسان هو غير اللفظ. وربما صح تعريفه بأنه القوى الخاصة بالمتكلمين، أو هو القوى المنطقية التي يدركون بها الأحكام المنطقية كالقياس والبرهان وما جرى مجرى ذلك. على أننا لا نستطيع الجزم بأن الحيوان الأعجم خلو من هذه القوى أو بعضها أو ما يقاربها ويشاكلها. (1-7) رأي في اللغة
عند «الدكتور أحمد زكي بك المدير العام لمصلحة الكيمياء» أن اللغات ليست بالشيء الذي يولد مع الإنسان كأنفه ولونه وسلامة هضمه أو فساده، بل هي من إرث المجتمع، يتعلمه المولود في نشأته كما يتعلم أمور الحياة الأخرى، بديهي أنك لو أخذت طفلا مصريا فأودعته بيئة فرنسية لشب، وهو لا يستطيع أن ينطق الصاد والظاء والعين ثم يكون أخنف النطق، ولو أخذت طفلا فرنسيا فأودعته بيئة مصرية لنطق بكل ذلك كل منطقه من فمه دون أنفه. ولو أخذت طفلا مدنيا وأودعته بيئة قرود لشب يصيت كما تصيت القرود. فاللغة من كسب الفرد في الجماعة، وهي في الجماعات من كسب الأجيال. ويرى العلماء أن الناس جاء عليهم دور في أدوار التطور الأولي لم تكن اللغات المنطوقة فيهم بالشيء المذكور.
وقد فحص بعض العلماء جماجم رجال عثروا عليها في حفائر في الأرض لعصور ما قبل التاريخ؛ رجاء أن يجدوا فيها الدليل على أن أهل تلك العصور لم يكونوا يستطيعون الكلام المنطوق، ومهما يكن من أمر هؤلاء وما حصلوا عليها من نتائج، فإن اتجاههم هذا نذكره لتوكيد المعنى الذي نريده من أن اللغة الإنسانية المنطوقة شيء مصنوع من ميراث الدهر، يجري عليها ما يجري على المواريث من قلة وكثرة، وضيق واتساع. وقد تتعاون الظروف، أو في مكنة الفكر أن يتصور ظروفا تنعدم فيها لغات الكلم، أو تتضاءل حتى تكون كالعدم، دون أن تؤثر على مطالب الحياة الأولى من طعام وشراب، ومن إنسان يمتد به الوجود ويتسلسل. وبين سكان هذه الأرض آدميون يعيشون في مجتمع لا تزيد أفراده على المئات يتكلمون لغات لا يفهمها مجاوروهم من أهل المجتمعات الصغيرة الأخرى. ولكن أي لغات هذه؟ لا شك أنها لغات كأبسط ما تكون اللغات، ضيقة كضيق حاجات هذه المجتمعات من أمور العيش.
إن لفظة اللغة تنصب أكثر انصبابها على لغة الكلام، وهي لغة قد امتاز بها الإنسان وحده، مازه بها رئة مرنة وعضلات حلق مختلفة متسقة، وأحبال صوت فيه متقاصرة متطاولة، ثم شفة ولسان تتآلف جميعا على إخراج أنواع من أصوات كثيرة لا يكاد الحصر يحصيها. وحسبك من تعددها أن اللغة الواحدة بها ما يقرب من ثلاثين حرفا يحرك كل منها ثلاث حركات أو أكثر، عدا ما يستطيع الفرد أن يحدثه في نغماتها من رفع وخفض على درجات شتى، وترقيق وتغليظ على درجات شتى كذلك، ثم ما يستطيعه من تأليف بينها وصناعة ما نسميه بالكلمات وهي في لغة البشر ألوف مؤلفة.
فلغة الكلام لغة أصوات راقية معقدة، آلتها حناجر راقية معقدة لحيوان راق معقد. حسها الأذن، فهي لغة آذان.
وإلى جانب هذه اللغة توجد لغة أخرى تعتمد على الحركات والإشارات، وهي تحس بالعين؛ ولهذا نسميها لغة العيون. والإنسان في أدنى دركات الترقي تقل لغته الأذنية؛ أي لغة الكلام، وتكثر لغته العينية؛ أي لغة الحركات والإشارات، حتى قيل إن في القبائل الإنسانية قبائل لا تستطيع أن تتفاهم في الظلام.
على أن الإنسان في أرقى مدنيته وأرفع ثقافته، لم يتخلص بعد من لغة العين؛ راقب رجلا يتحدث، لا سيما حديثا حارا مفعما بالمشاعر، تجد يده لا تفتأ مرفوعة مخفوضة مبسوطة مقبوضة، ترسم في الهواء المستقيمات والمنحنيات وما يخطر على بالك من أشكال وما لا يخطر، وانظر لها تندق على المنضدة اندقاقا، وانظر إلى عضلات وجهه كيف تنبسط وكيف تنقبض، وإلى عينه وحاجبه كيف يضيقان ويتسعان. ومن الناس من لا يكفيه التفاهم بالأيدي فيستعين بالأرجل توكيدا للكلم المسموع.
Неизвестная страница