فإنها أرض ممتدة بالطول فيما بين جبل لبنان والبحر، ولا يزيد متوسط عرضها في التعديل عن ثمان مراحل أو عشرة، وينبت الزيتون والكرم والقمح في سفح تلالها وفي مجاري السيول بها بدرجة فائقة معجبة، وكانت أعالي الجبل تكسوها في الزمان السالف غابات من البلوط والصنوبر والعرعر والتنوب والسرو والأرز، ولم يكن فيها أنهار كبيرة مطلقا بل مجاري سيول ينحدر فيها الماء بسرعة وشدة مثل؛ ليتاتي ونهر الكلب (المعروف قديما باسم ليكوس) والنهر الكبير وأغلبها تندفع مرة واحدة من لبنان إلى البحر الأبيض.
وقد جاء في روايات القوم أن أصل الفينيقيين من الأمم التي على شواطئ الخليج الفارسي، وأنهم اضطروا لترك مواطنهم على أثر زلازل هائلة خربت ديارهم ومحت معالمهم، فلما استراحوا مدة من الزمان على شاطئ البحيرة الكبيرة التي في آشور (لا شك أنها هي والبحر الميت شيء واحد) جاءوا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط واستقروا عنده في نحو القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، وكانت مدائنهم منفصلة عن بعضها بمسافة عشر مراحل أو اثنتي عشرة بالأكثر، ثم ما لبثت أن امتزجت ببعضها، وتكون منها ثلاث طوائف مستقلة كانت لكل واحدة منها خواص تميزها عن الأخرى.
فكان بناحية الشمال في مدينتي أرواد وسيميرا الكبيرتين؛ أقوام ميالون للشغب والمحاربة مستعدون في كل وقت لمقاتلة مجاوريهم والقيام على من يغير على أرضهم من الأجانب مصريين كانوا أو آشوريين، وكانت أرواد قائمة على جزيرة صغيرة بعيدة عن البر بثلاثة كيلومترات تقريبا وأمامها مرثوس
3
وكرنة وانترادوس «حيث كان يحل فيها على الرحب والسعة ما كانت تضيق عنه الجزيرة»، وكانت هذه المدائن الثلاث تمتد وراء بعضها متتابعة متلاصقة كأنها طراز متواصل.
وكانت جبيل أو جبون التي يسميها اليونان بيبلوس على رأس الطائفة الثانية من المدائن، ويروون أن قد بناها الإله إيل في أول الزمان على بضعة مراحل داخل الأراضي بالقرب من الشاطئ الشمالي لنهر الكلب، ثم انتقلت بعد ذلك إلى ساحل البحر من قرب من نهر أدونيس (وهو إبراهم نهر)، قالوا؛ وكانت بيروت تشاركها في الافتخار بأن الإله إيل بناها أيضا، وكانت مرسى أمينا واقعة في نهاية أخصب السهول بفينيقية، والظاهر أن جبيل وبيروت كان لهما شأن مهم في السياسة في الأزمان التي أعقبت مجيء الفينيقيين، ولم تتمكنا من المحافظة على مقامهما هذا مدة طويلة، ولكن نفوذهما لم يضعف بهذا السبب بل بقيتا إلى أواخر الأزمان الوثنية مركزا لديانة أدونيس؛ وهي من أرسخ الديانات الشامية وأثبتها. (2) صيدون (صيدا) وصور
كانت مدينة صيدون «وهي أول ما أحدثه كنعان» على بضع مراحل من جنوبي بيروت، ولم تكن إلا قرية للصيادين،
4
بناها على ما جاء في رواياتهم القديمة الإله بعل (المعروف عند اليونان باسم آجنور) على المنحدر الشمالي لرأس صغير يشرف بانعطاف نحو الجنوب الغربي، وقد كان لميناها عند السلف شهرة فائقة، وهي محصورة بين صخور منخفضة متتابعة تبتدئ من النهاية الشمالية لشبه الجزيرة، ثم تمتد بحذاء الساحل على مسافة بضع مئات من الأمتار، والسهل المحيط بها يسقيه نهر جميل يعرف باسم بوسترين (نهر الأوالي)، وفيها كثير من البساتين الغناء والرياض الأريضة؛ حتى أوجب هذا البهاء الطبيعي وهذا الجمال الخلقي تسمية المدينة بصيدون الزهراء، وبجوارها شمالا نهر الدامور، وهي تمتد جنوبا لحد مصب نهر ليتاني، وفيما بعد ذلك كانت البلاد داخلة في حكم الصوريين .
شكل 16-1:
Неизвестная страница