الرابية التي وراءها أطلال بابل - مأخوذ هذا المنظر من على شواطئ الفرات.
وقد اشتهر القصر الملوكي (الذي كمل تشييده في خمسين يوما على ما يقال) ببساتينه المعلقة، إذ كانت نساء القصر يتنزهن فيه وهن سافرات الوجوه فلا تقع عليهن أنظار الأجانب عنهن.
وفي أثناء ذلك تم إصلاح الترع التي كانت تصل دجلة بالفرات، وتأتي بمياههما إلى وسط المدينة، ورممت الجوابي (الحيضان والصهاريج الواسعة) التي كان ملوك العائلات القديمة يجرون إليها مياه الفيضان السنوي ويخزنونها بها، وبنيت القنطرة التي توصل بين نصفي المدينة الكائنين على ضفتي النهر، واستعمل مهندسو ذلك الأوان كل ما لديهم من الوسائل والوسائط لحفظ المدينة ووقايتها من هجمات العدو فأحاطوها بسور مزدوج؛ جعلوا فيه مائة باب لكل واحد مصراعان من الشبهان وكان من عظم سمك هذا السور أنه يتيسر لعربتين أن تجريا متحاذيتين على قمته، وقد عم التحسين النواحي المجاورة لبابل والمدائن القديمة بكلديا حتى لقد كان لها منه نصيب يذكر.
ولما كان ازدياد الثروة وتوفر أسباب اليسار في هذه البقعة من الأرض مما يغري بها الأمم المجاورة لها ويجعل أنظارها تطمح إليها، فضلا عن شدة الرهبة من الماديين ومن أطماعهم؛ أنشأ نابوكودونوزور أمام بابل سورا عظيما وهو السور المادي المستند على سيتارا؛ فسد به سدا مستكملا شبه البرزخ المتكون من دجلة والفرات عند اقترابهما، وكان هذا الرجل لا يمل من العمل ولا يكل من توالي المشروعات، حتى أصبح في كلديا مثل رمسيس الثاني في مصر؛ أي باني العمائر ومشيد الآثار بحيث لا يوجد حوالي بابل مكان لا يرى فيه الإنسان اسمه، أو لا يطلع به على ما يعرب عن نشاطه الفائق واجتهاده الغريب. (5) نابوناهيد (من 555 إلى 538) وسقوط المملكة الكلدانية (في سنة 538)
على أن المملكة لم تدم بعده طويلا فجلس على سرير ملكه ثلاثة ملوك في مدة سبع سنين (من سنة 562 إلى سنة 555)، ثم ذهبوا فريسة الفتن التي حصلت في القصور، وبهم انقرضت سلالته. وقال الأهالي «لا شك أن هذا من عمل الله» لأنهم دهشوا لما رأوه من حصول هذا الانحطاط السريع بعد ذاك الارتقاء والاقتدار اللذين ليس بعدهما ارتقاء واقتدار. وقد جاء في رواياتهم أن بخت نصر في أواخر أيامه أصابه شيء من النبوة فصعد على سطح قصره وأنبأ بقرب خراب مملكته. ويقول اليهود في رواياتهم إنه سكر بما ناله من المجد، وافتتن مما حصل عليه من الفخار؛ حتى أداه الإعجاب بنفسه إلى الظن بحلول الألوهية في جثمانه؛ فسخطه الله عز وجل حيوانا من الحيوانات، عاش ست سنين في حقول البرية يقتات من الحشائش كالبهائم السائمة ثم رجع إلى شكله الأول وجلس على سرير الملك بالثاني.
أما نابوناهيد الذي لبس التاج بعد انقراض العائلة الملوكية؛ فلم يكن فيه شيء من خصال الأبطال بل ولا من صفات الأجناد، فكان ملكا كسولا محبا للدعة والسكون، عاكفا على عبادة الآلهة بدلا من التفاته إلى صيانة القلاع وتعبية الجيوش فحيثما وجد معبدا متخربا رممه أو أعاد بناءه من أوله إلى آخره، وكان يبحث في أساس هذه المعابد عن النقوش والكتابات التي دفنها بها الملوك المؤسسون لها، وكان يفرح فرحا شديدا حينما يعثر فيها على اسم ملك قد حكم قبله بمئات أو بآلاف من السنين. وقد هدده الماديون في أول حكمه ورأى اتساع سلطان كورش، وحاول أن يوقف امتداد هذا الاتساع بما عقده من المحالفات مع مصر وليديا، ولكن سقطت ليديا في سنة 546، وكان أمامه مهلة بضع سنين كان يتيسر له في خلالها أن يستعد للمقاومة والدفاع؛ ولكن كسله ونسيانه لآلهة بابل ومغالاته في عبادة آلهة المدائن الكلدانية الأخرى ؛ كل ذلك أحدث سخط رعاياه وغضب جنده عليه. فلما قامت الحرب في سنة 538 لم تثبت إلا بضعة أسابيع حتى وضعت أوزارها، فإن كورش عبر دجلة وهزم الكلدانيين. ولما جاء الخبر بفوزه وانتصاره حصلت ثورة أتت على ما كان قد بقي لنابوناهيد من الوسائل والوسائط، فباغت جوبرياس القائد الفارسي مدينة بابل، واستولى عليها من غير حرب ولا قتال. وأما نابوناهيد فقد سلمه أصحابه إلى عدوه، ومات بعد ذلك ببضعة أيام (سنة 538).
فوقعت بذلك دولته كلها من غير مقاومة في يد الفرس، وصار للأمم المضروب عليها الجزية لكلديا من شوام وفينيقيين وأعراب أسياد، غير الذين كانوا لهم. ولم يهتم هؤلاء الأقوام بهذا التغيير وبما أنهم لم يكونوا قادرين على نوال حريتهم واستقلالهم؛ فكان لا يعنيهم الحاكم الذي عليهم سواء كان هذا أو ذاك بل ظهر على بابل نفسها أنها رضيت بهذا الأمر، وأنها فرحت بسقوط ملكها الذي منها، وبقيت بعد ذلك عاصمة من عواصم الدولة الفارسية.
خلاصة ما تقدم (1)
كانت بلاد كلديا هي أول من ورث ملك بلاد آشور، وقد قام حاكمها نابوبولاصر وجعل نفسه ملكا عليها بمساعدة الماديين عند موت آشوربانيبال سنة 625، ثم هجم على نينوي أمم كانت لها عليهم السيادة، ولكن إغارة السكيثيين أنقذتها من الخراب بضع سنين، فلم تسقط إلا في سنة 606 على يد الماديين والكلدانيين وقد تمالؤا عليها. (2)
وبعد خراب نينوي رأى نابوبولاصر أن يطرد الفرعون نخاو الذي كان احتل الشام منذ قليل من الزمان (سنة 608) فانتصر عليه ولده بخت نصر في كركميش، ولما كان على أهبة الدخول إلى مصر علم بوفاة أبيه فقفل راجعا إلى بابل. (3)
Неизвестная страница