وقبل ذلك بخمسين يوما تهب على مصر ريح الخماسين، وتتوالى عليها من جهة الغرب من غير انقطاع، فتلفحها بنارها وسمومها؛ حتى إن كثيرا من جهات القطر تكون كأنها قطعة من البادية متصلة بهذه الديار، ومتى طلعت عليها الشمس علاها الغبار وثار فوقها وهي جرداء قحلاء. فأينما رمى الإنسان بطرفه رأى الأرض على مدى البصر مشققة تشقيقا متقاطعا، ثم ترتفع في الجو طبقة من الغبار الأزرق فتحيط بالأشجار وتعدمها البهجة والحياة. وأما النيل فيقل اتساعه إلى نصف عرضه المعتاد، وتهبط مياهه حتى تكون نصف عشر ما كانت عليه في شهر أكتوبر، ثم لا يلبث أن يعود زاخرا حتى يركب الجسور. وفي نحو منتصف شهر يوليو يخشى من تجاوزه لها وطغيانه عليها؛ فتقطع السدود المانعة له فتنساب مياهه إلى أرض المزارع، وتعمها في بضعة أيام حتى تضرب من الجبل الشرقي إلى الجبل الغربي؛ فيصبح الوادي وهو لجة من الماء العكر يجري بين امتدادين من الرمال والصخور، تطفو عليها القرى والروابي وتلوح للرائي كأنها قمم خضراء ونقط سوداء، وتخترق اللجة جسور تجمع بين القرى فتقسمها إلى مربعات غير منتظمة. ويكون منتهى الزيادة في بلاد النوبة في آخر شهر أغسطس، وفي القاهرة والدلتا بعد ذلك بشهر واحد. ثم يقف الفيضان فلا يزيد النهر ولا ينقص نحو ثمانية أيام متواليات، وبعد ذلك تأخذ المياه في التناقص والهبوط بسرعة حتى إذا ما حل شهر ديسمبر عاد النيل إلى مجراه فلا يتعداه. (4) نباتات مصر وحيواناتها
لا جرم أن القطر الذي تهاجمه المياه في كل عام لا يكون فيه كثير من الأشجار، على أن الجميز وأصناف الأقاقيا والسلم والأثل تنبت بها وتعيش فيها، ومن أشجار بساتينها التين والمشمش واللبخ
7
والسنط الحساس (المستحية) والكرم. وأما نخل الدوم فينبت في الصعيد من غير فلاحة تقريبا وأرضها، موافقة كل الموافقة لإنبات النخيل، فحيثما وجه الإنسان ناظره أبصر أشجاره، صنوانا وغير صنوان، في أفواه المجاري وحوالي القرى، وعلى امتداد السواحل مصفوفا إلى جانب بعضه بنظام يحاكي نظام العمدان، ومغروسا باتساق واعتدال بحيث تتكون منه غابات غير كثيفة، وكلها في غاية البهجة والجمال. وقد يزرعون حول النخيل أشجارا أخرى فيختلف بها المنظر اختلافا يشرح الصدر وترتاح له النفس. وأما النباتات المائية فهي كثيرة في الدلتا تنمو في بحيرات الساحل نموا عجيبا، وتشتبك أغصانها؛ حتى إنها كانت في كثير من الأوقات ملجأ للمغضوب عليهم المهدور دمهم، والأمراء المنهزمين يأمنون فيه من كيد العدو ومباغتة الغريم.
وقد اشتهر من هذه النباتات نوعان هما؛ البردي والبشنين بما كان لهما من الشأن والأهمية في تاريخ مصر المقدس والملوكي. فكان البردي علامة رمزية على الدلتا واتخذوه ورقا للكتابة في قديم الزمان، وأما البشنين فجعلوه عنوانا لإقليم طيبة (الصعيد). وكان القدماء يطلقون اسم البشنين على ثلاثة أنواع من النبات ما بين زرقاء وبيضاء وحمراء، من غير تفرقة في الإطلاق، وقد كاد البردي يكون معدوما، وأما البشنين فهو نادر الوجود. وكان سكان وادي النيل يتناولون كلا من النباتين غذاء مسلوقا أو مشويا أو مطحونا ومتخذا خبزا، وكان هذا الغذاء خاصا بالفقراء والمساكين، وكان القوم يؤثرون عليه ما تخرجه الأرض من غير كبير عناء ولا شديد عمل؛ كالترمس والفول والحمص والبامية والعدس والقمح خصوصا، وغير ذلك من أنواع الحبوب؛ مثل الشعير والأذرة والأذرة العويجة. وكثير من الحيوانات المستخدمة المعروفة عندنا الآن كانت مجهولة في مصر الأولى؛ فإن الفرس لم يدخلها إلا في حدود القرن العاشر قبل الميلاد، والجمل في أيام البطالسة، أما الثور والضأن والعنز والخنزير فقد وجدت صورها ورسومها على أقدم الآثار، وكذلك كثير من أنواع الكلاب الأهلية المستخدمة، والغزلان المستأنسة، وأما الأوز والبط فكان كثيرا فيها، ولكن الدجاج لم يظهر له أثر بها وبقي نادرا مدة طويلة من الزمان. وفيها شيء كثير من الأسماك منها ماهو كبير جدا، وأغلبها صالح للأكل. وأما الحيوانات المضرة المؤذية فهي قليلة، وكانت الآساد وبعض وحوش من فصيلة السنور؛ كالفهد والغيلس والببر، وكثير من أصناف الضباع، وبنات آوى، والذئاب، تختلف إلى أطراف الصحراء. وكثير من العقارب والثعابين السامة مثل الحية القرناء، والثعبان الناشر تدب في المزارع والمساكن. أما فرس البحر فقد غادر بطائح الدلتا في أواخر القرن السادس عشر بعد الميلاد، وقد بقي التمساح في مكانه إلى أيامنا هذه حتى جاءت البواخر فطردته إلى ما وراء الشلال الأول. (5) الإله النيل وعبادته
النيل هو مدار النظام في أرض مصر، وكل ما فيها من نبات تخرجه أرضها وحيوان يدب عليها وطيور تعلو في جوها، وقد أدرك المصريون هذه المزايا كما ينبغي، وعلموا أنه أس الحياة في بلادهم، فألهوه وسموه «حابي ومعناه النيل السعيد». وكانوا يترنمون على الدوام بمديحه وذكر نعمه وفضائله (شكل
1-1 ) فكانوا يقولون:
شكل 1-1:
الإله النيل (نقلا عن التمثال المحفوظ في المتحف البريطاني).
النيل هو موجد القمح، ومخرج الشعير
Неизвестная страница