История безумия: от древности до наших дней
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Жанры
ومن بين الابتكارات التي تعزى أيضا إلى القرن الثامن عشر ابتداع الدراسات السريرية المكرسة حصريا للجنون، وذلك في إطار التيار الأوروبي واسع النطاق الذي تميز بالثراء والذي لا يتسع المقام الآن لتناوله بشكل كامل. وتجدر الإشارة إلى الإنجازات التي حققها الإنجليز في هذا المجال، ولنبدأ بذكر ويليام باتي (1703-1776)، وهو أحد أوائل من شهدوا على الجمع بين النظرية والتطبيق - إن لم يكن أولهم - في كتابه «أطروحة حول الجنون» (1758). وسوف نرى ما هو الدور المحوري الذي اضطلع به في مجال إصلاح تقديم خدمات الرعاية الطبية في المشافي للمرضى عقليا في إنجلترا، وفي نشأة العلاج المعنوي. فيما يتعلق بمفهوم الجنون، يرى باتي أن الجنون هو اضطراب في الحس والشعور والمخيلة (الجنون، أو خطأ الإدراك) أكثر من كونه انحرافا في العقل والذكاء. نذكر أيضا ريتشارد بلاكمور الذي درس السوداء في عام 1725، وجورج تشين الذي نشر في عام 1733 كتاب «المرض الإنجليزي» (المرض الإنجليزي أو أطروحة حول الأمراض العصبية على اختلاف أنواعها مثل السوداء، والأبخرة، والاكتئاب، والأمراض المتعلقة بالعصاب المراقي وبالهستيريا). حقق هذا الكتاب الأخير نجاحا عظيما وبدا عصريا بشكل مثير للدهشة؛ نظرا لأنه أرجع كل هذه الأمراض «العصابية» إلى أسباب مثل الخمول البدني، وفرط التغذية، والاكتظاظ في المدن المزدحمة.
في إيطاليا، تميز مورجانيي (1682-1771) - أحد مؤسسي الباثولوجيا التشريحية - بدراساته العديدة التي أفردها لفحص المخ في حالات الشلل والعته. ولقد ثبت ابتداء من هذا العصر أنه لم يعثر على أي آفات في الدماغ يرجع السبب فيها إلى الإصابة بالجنون، ولكن هذا الكشف لم يخلق جوا تنافسيا يلهم آخرين للسير على الدرب نفسه. شياروجي (1759-1820)، وهو طبيب ممارس أسندت إليه في عام 1788 مسئولية رعاية المختلين عقليا بمستشفى القديس بونيفاس في فلورنسا؛ ونشر له فيما بين عامي 1793-1794 المجلدات الثلاثة من «أطروحته حول الجنون» (في شأن الجنون وتصنيفاته)؛ حيث وضع أسس الملاحظة العلمية للجنون، محاولا أن يأخذ في الاعتبار الآفات التشريحية والاضطرابات الفكرية.
لقد كان للفرنسيين بصمة أيضا في هذا المجال بظهور للو كامو (مؤلف كتاب «طب العقل»، 1753) أو دوفور، الذي تظاهر للمطالبة بإنشاء «منزل خاص لعلاج الجنون» بعد حريق المشفى الرئيس بباريس في عام 1772. ولقد أشرنا من قبل إلى المقالة البحثية التي كتبها بعنوان «دراسة حول عمليات الإدراك البشري والأمراض التي تصيبها بالخلل» (1770). يعرض هذا المؤلف، الذي يقدم تمثيلا نموذجيا لعصره، اقتراحا جريئا يتمثل في «التقريب بين الأقوال الأكثر إثارة للاهتمام التي صرح بها الفلاسفة من جهة والأطباء من جهة أخرى بشأن هذه المواد وتشكيل نوع من الفسيولوجيا المرضية للإدراك البشري.» في الحقيقة، لم يف هذا المشروع الجميل إلا بالقليل من وعوده. فيرى دوفور، حاذيا في ذلك حذو أستاذه بورهاف - الأستاذ بجامعة ليدن - أن مقر الأمراض العقلية ليس في الدماغ، إلا في حالة إصابته بالخلل بفعل التواد (أي العلاقة بين الجسم والعقل، التي تؤدي إلى تأثر أحدهما بالآخر). «إن العيوب الموجودة في مختلف أجزاء الجسم الأخرى تتسبب أيضا في حدوث خلل وبلبلة في أفكار العقل» (نذكر على سبيل المثال تأثير الخثلة في حالة عصاب توهم المرض أو في العديد من الاضطرابات العقلية الأخرى)؛ «ولذا ليس من المستغرب عدم إحراز الطب لأي تقدم يذكر في علاج تلك الأمراض؛ نظرا لأنه كان يبحث عن أسبابها في الدماغ.» ولا تعد هذه النظرية المتعلقة بالأصل الودي للجنون (ويقصد بالأصل الودي أو التعاطفي للجنون: «تضامن فسيولوجي يتم عن بعد»؛ بحيث يؤثر إصابة عضو ما في الجسم بتضرر أو خلل على إصابة الإنسان بالجنون أو الاختلال العقلي) نظرية معزولة.
نشر سيمون تيسو (1728-1797) - وهو طبيب أيضا - بحثا بعنوان «دراسة حول الصرع»، وهو الجزء الثالث من الأجزاء الستة التي يضمها كتاب «أطروحة عن الأعصاب وأمراضها»، ولكنه اشتهر بكتابه «بيان للشعب بشأن صحته» الذي صدر في عام 1761، والذي يعد أحد أوائل المؤلفات التي اهتمت بالتثقيف الطبي، كما اشتهر بكتابه «الاستمناء - دراسة حول الأمراض التي تسببها العادة السرية». وقد حقق هذا المؤلف، الذي ترجم إلى لغات عدة، نجاحا باهرا، وصدر منه ما يزيد على 30 طبعة فيما بين عامي 1760 و1842. لم يكن الطب النفسي قد نشأ بعد وها هو يتوغل ليغزو أراضي جديدة. بسبب الاستمناء، وبشكل عام، «الكمية الكبيرة من المني التي تبدد بغير الطرق الطبيعية»، وقعت حوادث أسوأ وأفظع بكثير بالفعل من تلك «التي تصيب الأشخاص الذين يفرغون ما بداخلهم في الاتصال الجنسي الطبيعي.» بطريقة أو بأخرى، إنها الحماقة التي تجعل الشخص مجنونا ... وبعيدا عن كون هذه الآراء تشكل نظرية بلا مستقبل، سوف يسيطر هاجس الدمار البدني والعقلي الناجم عن «الرذيلة الفردية» على القرن التاسع عشر بأكمله.
كان مجتمع القرن الثامن عشر - ولا سيما صفوة المجتمع وأهل النخبة - في حالة وفاق مع علمائه، أكثر مما كان عليه الوضع في القرن السابق، مبديا اهتماما كبيرا بأبحاثهم. ما زلنا حتى الآن بعيدين عن تلك المرحلة التي كانت فيها المعرفة غير متاحة إلا للمتخصصين؛ ومن ثم، كانت المؤلفات العديدة التي خصصت للجنون تخاطب قاعدة عريضة من الشعب المستنير ولم تكن مقتصرة، كما ستكون عليه الحال في القرنين التاليين، على المتخصصين المحترفين فقط. أما عن المعاجم أو القواميس والموسوعات، فقد حظيت بقدر من الاهتمام من جانب عامة الشعب، حتى لو لم تكن في طليعة المعارف والإشكاليات في ذلك العصر. من المثير للاهتمام إجراء مقارنة، مع الأخذ في الاعتبار بالفارق الزمني الذي يزيد عن نصف قرن، بين «المعجم العام» الذي ألفه فورتيير (1690) و«الموسوعة» (1765 بالنسبة إلى المجلدات التي تهمنا) فيما يتعلق بالجنون. نجد في معجم فورتيير نحو عشرة تعريفات موجزة للغاية تبدو، حتى مع ارتدائها عباءة حقبة أواخر القرن الثامن عشر، قديمة. فعلى سبيل المثال، يعد الهوس «بحسب التعريف الطبي، مرضا يسببه حلم يقظة، ويكون مصحوبا بسخط وهياج من دون حمى، وهو ينشأ عن مزاج سوداوي ناجم عن التهاب المرارة أو السوداء، أو حرق الدم.» في «الموسوعة»، نجد عشرين بيانا مستفيضا يشمل معلومات محددة ومعرفة بدقة في مجال الطب. نذكر من بين المصطلحات الجديدة التي وردت بالموسوعة المخ/الدماغ، والأهواء (خصص لهذا الموضوع تسعة أعمدة)، وأيضا هوس الشياطين، الذي هبط بالضرورة إلى مرتبة الأمراض العقلية. والأطباء الذين كانوا لا يزالون يتجرءون على إثارة مسألة تأثير الشيطان كانوا يوصفون بالفلاسفة السيئين، بل والأسوأ من ذلك كانوا يوصفون بكتاب التراجيديا الفاشلين، الذين يستغلون هذا الموضوع «كمدد غيبي لمسرحية لا يعلمون كيف يسطرون نهايتها.» نجد من بين المصطلحات الجديدة أيضا الأبخرة، بوصفها «مرضا مراقيا مشتركا بين الجنسين؛ حيث يتأثر الدماغ بفعل التواد بتهيج الألياف العصبية للأحشاء، الرحم بالنسبة للنساء والمراقان بالنسبة إلى الرجال.» لم يغفل «الاهتياج الرحمي »؛ إذ ورد ذكره على أنه مرض يصيب «الجنس» [بمعنى مجموع النساء]، وتم تعريفه كهذيان تتجلى من خلاله «رغبة جنسية مفرطة تدفع المرأة بعنف إلى إشباع ذاتها.» ويؤدي عدم إشباع هذه الشهوة إلى هياج (ومن هنا جاء اسم «الاهتياج الرحمي» أو الغلمة). المعادل الذكوري لهذا المرض هو «الشبق» الذي قيل عنه إنه أقل شيوعا؛ نظرا لأن الرجال يستطيعون بسهولة إطلاق العنان لنزعاتهم التناسلية ولشهواتهم الجنسية. ولقد تم تعريف المصطلحات الكلاسيكية المعروفة منذ العصور القديمة بأسلوب تقليدي وكلاسيكي للغاية. ولكن، في الواقع، ما هو الجنون في نظر المؤلفين الموسوعيين؟ قد يكون الجنون أخلاقيا أو طبيا: «حين يحيد المرء عن العقل ويكون مدركا لذلك وشاعرا بالندم؛ لأنه تحت نير عبودية هوى عنيف، فهذا معناه أنه ضعيف. أما حين يبتعد المرء عن العقل بثقة وباقتناع تام بأنه يتبع طريق الصواب، فهذا فيما يبدو هو ما نطلق عليه الجنون. هؤلاء هم على الأقل أولئك المساكين الذين يتم احتجازهم، والذين ربما لا يختلفون عن سائر البشر إلا لأن جنونهم من نوع أقل شيوعا ولا يدخل في نطاق نظام المجتمع وأمنه.»
عرف فولتير في مؤلفه «القاموس الفلسفي» (1764) مصطلح «الجنون» على النحو التالي: «الجنون هو ذلك المرض الذي يصيب أجهزة الدماغ ويجعل الإنسان بالضرورة غير قادر على التفكير أو التصرف مثل الآخرين. وبما أنه لا يستطيع إدارة ممتلكاته، فإننا نحجر عليه، وبما أنه لا يملك أفكارا ملائمة للمجتمع، فإننا نقصيه عنه. وإذا كان يشكل خطورة، نقوم باحتجازه. وإذا كان هائجا، نقوم بتقييده [...] المجنون هو شخص مريض يعاني بسبب تضرر دماغه، كما يعاني مريض النقرس بسبب الآلام التي يشعر بها في يديه وقدميه.» ومن جانبه، يشرح ديدرو إلى صوفي في أحد خطاباته (رسائل إلى الآنسة فولاند) ما هي السوداء، أو «الأبخرة الإنجليزية». كما ألهمت هذه الأبخرة نفسها مرسييه في كتابه «لوحة باريس»: «إن الخيال هو الذي يفتح المجال للألم؛ لأن هذه القوة العقلية، حين لا تجد ما يجذب اهتمامها ويستحوذ عليه، تمتلك المقدرة على تحويل كل ما يحيط بها إلى مصادر للألم والوجع.»
عصر الباروك العلاجي
بالطبع، كان كل هذا التفكير النظري حول الجنون مصحوبا بإرشادات علاجية. نادرة هي المؤلفات التي لم تتطرق إلى الجانب العلاجي. ولقد كانت الإرشادات العلاجية وافرة في هذه الحقبة أكثر مما كانت عليه في العصور القديمة أو العصور الوسطى، لدرجة أن غزارتها، وليس غيابها، هو ما بدا بالنظر إلى الماضي أمرا غير مطمئن. في الواقع، كان جدول الطرق العلاجية في أواخر القرن الثامن عشر مستفيضا بقدر ما كان متنوعا. نجد في المقدمة الطرق العلاجية الكلاسيكية المنصوص عليها في أواخر القرون الوسطى. في العديد من المقالات البحثية كما في منشور التعليمات الصادر في عام 1785، تنوعت أساليب المداواة تبعا لأنماط الجنون المختلفة: الهوس، والسوداوية، والوساوس المرضية، والتهاب الدماغ المسبب لجنون الاهتياج، والعته والبله.
أصبحت عملية الفصد رائجة أكثر من أي وقت مضى منذ بروز أعمال هارفي المتعلقة بالدورة الدموية، وكانت توصف تقريبا في جميع حالات الجنون، ولكن بدرجات متفاوتة. فكلما كان الجنون حادا (هوس، جنون الاهتياج)، وجب «إجراء عملية الفصد بجرأة». ويتم التخفيف من حدة الفصد إذا كان المريض مصابا بالسوداوية، خاصة إذا كانت الحالة قديمة. ولكن لا بد من توخي الحذر، وفق ما ورد في «تعليمات» 1785، وعدم «الإفراط» في الفصد في حالة الهوس؛ لأن هذا قد يؤدي إلى «إضعاف المريض وإصابته غالبا ببله غير قابل للشفاء». ورد في دورية الطب الرسمية تقرير بشأن العلاج الذي خضعت له في السابع والعشرين من سبتمبر 1778 الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعا المصابة ب «هوس حقيقي لا تصاحبه حمى». يتحدث الطبيب المعالج قائلا: «جعلتني حالة الفتاة أشخص هذا المرض فعليا على أنه هوس وراثي يسببه تدفق دم الحيض نحو الأعضاء التناسلية [لم تكن الفتاة المعنية قد حاضت بعد]. ولإجراء عملية التفريغ الأولى، أوصي بالفصد من القدم.» بيد أن المريضة اهتاجت جدا، وباستشارة أحد الجراحين، اقترح استخدام العلقات. وبصعوبة استطعنا وضع ست علقات «متعطشة للدم» على قدمي المريضة المغمورتين في الماء. بعد مرور بعض الوقت، قطع الطبيب أذناب العلقات. «كلما كان الدم يخرج، كان رأسها يتحرر من وطأة الجنون. وبعد ذلك بأربعة أيام، حين قبلت طواعية بأن يتم إجراء فصد لها من القدم، استعادت عقلها في النهاية.»
وفي المقابل، لماذا لا نلجأ إلى نقل الدم؟ لقد لاقت النظرية، بل وأيضا التطبيق، رواجا في باريس في الفترة ما بين 1660 و1680، وكان بطلهما هو الدكتور ديني، الذي ادعى أنه قد شفى العديد من المجانين بهذه الطريقة، بينما أكد المغتابون أنه قد قتلهم. في يوم الإثنين الموافق 19 ديسمبر 1667، أجرى الطبيب دينيس تجربة علنية على مجنون حقيقي كان يركض نصف عار في شوارع ماريه وبات أضحوكة الحي. حضر هذه التجربة «بعض الشخصيات المحترمة من ذوي الوجاهة والمقام الرفيع، وطبيبان، وسبعة أو ثمانية فضوليين، وجزاران وهما اللذان أحضرا العجل.» حيث يتعلق الأمر في الواقع بنقل دم العجل إلى المريض؛ إذ إن هذا الدم «قد يسهم بعذوبته وطزاجته ونقائه في التلطيف من حدة فوران وغليان الدم الذي سيختلط به.» وقد تكررت عملية نقل الدم بعد مرور 48 ساعة «بمعدلات كبيرة». بل لقد كان هناك تفكير في إخضاع المريض قبل إخلاء سبيله لعملية نقل دم للمرة الثالثة (لإنهاء ما بدأته العمليتان السابقتان). «لقد أصبح حاليا في حالة من الهدوء التام.» تبول المريض ملء كوب كبير بولا ذا لون داكن للغاية كما لو كان قد مزج بسخام المدخنة. وتعد هذه البيلة الهيموجلوبينية [وجود دم في البول بسبب تكسر كريات الدم الحمراء الناجم عن عدم التوافق بين دم المتبرع ودم المتلقي] مؤشرا جيدا بتفسيرها على النحو التالي: «يرجع السبب في وجود خضاب الدم في البول إلى تعرض المرة السوداء للتفريغ وتصريفها عن طريق الأبوال، وذلك بعد أن كانت محتبسة قبلا داخل الجسم وكانت تبعث بأبخرة إلى الدماغ؛ مما كان من شأنه أن يؤثر في وظائفه ويحدث بها خللا.» ونحن لا نعلم ما إذا كان هذا المجنون المسكين قد نجا أم لا، ولكن عمليات نقل الدم الأخرى التي أجريت لاحقا كان لها عواقب وخيمة؛ مما أسفر عن إدانة هذه الممارسة اعتبارا من بداية القرن الثامن عشر، فضلا عن ذلك، بدأ يظهر تيار قوي لمعارضة إجراء عملية الفصد للمجانين، ولا سيما إذا كان الجنون مستعصيا. وخصصت كتب بأكملها لتناول هذا الموضوع، ولكن تجدر الإشارة إلى أن ما تم التنديد به بالأحرى هو الإسراف في اللجوء إلى هذه الطريقة العلاجية وليست الممارسة في حد ذاتها.
Неизвестная страница