История безумия: от древности до наших дней
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Жанры
تأملات نظرية
إذا أردنا حقا أن نتحدث عن القرن السابع عشر بوصفه لا يمثل ميلاد تاريخ الجنون، على حد قول فوكو، وإنما إحدى مراحله (متسائلين في الوقت نفسه بصورة أعم عما إذا كان التقسيم التاريخي للجنون يشكل في حد ذاته ضربا من ضروب جنون المؤرخ)؛ فسيتعين تناول هذا الموضوع بالنظر إلى سياق الثورة الفكرية، التي اندلعت شرارتها مع ديكارت. إن عدم التسليم في العلوم إلا بما يتفق مع العقل، يعد المبدأ الذي شكل بصورة صارخة قطيعة مع الفلسفة المدرسية (الإسكولاستية) ... مع ظهور المؤلف الذي نشره ديكارت في عام 1649 بعنوان «انفعالات النفس»، نشأت ثنائية الجواهر (ماهية المادة) والفسيولوجيا العصبية النظرية التي منحت الغدة الصنوبرية [الجسم الصنوبري] دور «الرقيب»: فعن طريق هذه الغدة يتلقى الجسم الأوامر من الروح. يرى ديكارت باعتباره معارضا لفكرة ازدواجية النفس، التي تقول بوجود نفس عاقلة وأخرى حسية، أنه لا يوجد إلا نفس واحدة فقط، وهي النفس المفكرة المتحدة اتحادا وثيقا بالجسد، بحيث ينتج عن اتحادهما في الجوهر كيان ثالث وهو الإنسان المادي الملموس. أما فيما يتعلق بنظرية الأهواء، التي تعد قديمة قدم القدماء أنفسهم، فهي تسمح بالتمهيد لفكرة «حركات النفس» التي تقدم تعريفا، إذا جاز التعبير، للطابع النفس-جسمي للانفعالات.
يدحض سبينوزا (1632-1677) - المؤمن بمذهب الواحدية - الثنائية الديكارتية، والتي شكلت فيما بعد مصدر إلهام لقطاع كبير من الطب النفسي المعاصر. يرى سبينوزا أن التعارض بين النفس والجسد ليس إلا تناقضا بين إدراكين لواقع واحد. ويشير كورو دو لاشامبر (مؤلف كتاب «سمات الأهواء»، 1640) إلى المنفعة الاستراتيجية التي حققها الأطباء والفلاسفة بتفضيلهم للأهواء، لكي يتمكنوا بذلك من الحفاظ على موقفهم كأخلاقيين مع بقائهم في الوقت ذاته في حقل الفلسفة، وكاختصاصيين في علم النفس بتطرقهم إلى الطب.
بخلاف النظامين الطبيين-الفلسفيين اللذين تشاركا التفكير الطبي السائد إبان القرن السابع عشر (العناية الطبية الآلي والعناية الطبية الكيميائي )، واللذين تركا فيما بعد بصمة على الطرق العلاجية، استمر الطب في عدم الفصل بين دراسة أمراض الجسد ودراسة أمراض النفس. فكما تصيب الأمراض الكبرى الأشخاص موفوري الصحة، تبتلى أيضا العقول العظيمة والممتازة بأفظع ضروب الجنون، التي تحدث اضطرابا في القوة الجسدية لدرجة تجعل الإنسان يفعل أشياء غريبة واستثنائية، ومن ثم يتم استدعاؤنا لإبداء رأينا حول هذا الاختلاف، ولمعرفة ما إذا كان مصدر هذه الأفعال خبث المريض أم غلبة المرض. وللحكم بدقة على الحالة وكتابة تقرير أمين عنها، لا بد من تفحص المريض ودراسة جميع عاداته وسلوكياته لمعرفة ما إذا كانت سوداوية أم صفراوية، وسؤاله عن العديد من النقاط، ولكن بأسلوب دقيق ومحدد ينم عن مهارة وذكاء؛ لأنه يجب ألا يتوقف المرء عند الرأي أو الاعتراف الذي يدلي به شخص مصاب بالسوداوية؛ إذ إنه غالبا ما يقول ما لا يعرف، ويظن أنه يرى ما لا يراه فعليا، وحين يتصور أشياء خاطئة، فإنه يتشبث بها بحزم لدرجة قد تجعله يفضل بالأحرى مكابدة الموت على أن يغير موقفه أو يناقض كلامه، وهنا تتجلى قوة حركة مخيلته المختلة
1 (1609).
للبقاء على أعتاب القرن السابع عشر الذي ما زال قريبا من عصر النهضة، لا بد من التوقف برهة عند مؤلف هام وفريد من نوعه، كتبه بيير دو لانكر، أحد قضاة بوردو. ونحن لا نقصد هنا كتابه الشهير المعنون «جدول تقلب الأرواح الشريرة والشياطين» (الذي أبدى فيه تأييده العنيف لمطاردة الساحرات والمشعوذات، ولكن يتعلق الأمر، بالنسبة إليه كما يتعلق بالنسبة إلى العديد من العقول بأي شيء آخر غير الجنون)، وإنما المقصود هو مؤلف آخر أقل شهرة من سابقه، وهو كتاب «جدول تبدل وتقلب الأشياء؛ حيث يتجلى أن الله وحده هو مصدر الثبات الحقيقي الذي يجب أن يهدف الإنسان الحكيم إلى الوصول إليه» (1607). هذا المؤلف الأخلاقي، كما يتضح من عنوانه، يتناول بأسلوب غاية في السلاسة واليسر بعض التأملات والأفكار الطبية الأصيلة، والدليل على ذلك أن المرء يستطيع إذن (ولكن لفترة قصيرة فحسب) أن يكتب بحثا قيما عن الجنون دون أن يكون طبيبا ولا فيلسوفا. الحكمة لا تأتي إلا «بشكل عابر»، بينما «تكمن بذرة الجنون داخل كل واحد منا.» بإيجاز، منذ الجنون الأول والأعظم؛ أي جنون حواء «حين أكلت الثمرة المحرمة»، أصبحنا جميعا «جنسا من المجانين». ولكن هذه الاستعارة سرعان ما دخلت في نطاق المقارنة بالجنون الطبي: «أحد أكبر التهديدات التي اعتاد الله توجيهها إلى البشر الخطأة، وإحدى المصائب العظام التي يبتلى الإنسان بها ، هو الجنون؛ أي تركنا لهلاكنا لنسقط في هوة الخطيئة السحيقة.» يتناول دو لانكر في خطابه الهلاوس (بالتأكيد، من دون استخدام المصطلح نفسه) التي تنتاب المهتاجين الساخطين، ويتحدث أيضا عن المخ باعتباره مقر الجنون ومسكنه. وبدأ يؤسس على استحياء نظاما حقيقيا لتوصيف الأمراض على النحو التالي: «الجنون أشبه بشجرة [...] تتفرع منه أنواع وأشكال متعددة كما تتدلى الأغصان والفروع من الشجرة وترتبط بها. فهناك الحمقى، والمصابون بالهياج والهوس والسعار، والمعاتيه ذوو المزاج المتقلب، وسريعو الانفعال [...] ولا أريد أن أغفل أيضا اليائسين [...] بالإضافة إلى عدد من المصابين بالسوداوية والحالمين.» علاوة على ذلك، يشير دو لانكر أحيانا بشكل صريح إلى الجنون المرضي، الذي يطلق عليه «الجنون الطبيعي»، والذي يصاب به الإنسان بالولادة أو عن طريق المصادفة، وفي هذه الحالة الأخيرة يحدث ذلك بسبب «العواطف المفرطة»، التي تمثل في حد ذاتها أشكالا متنوعة من الجنون؛ كالهوس، والسوداوية، والحب، والغضب، وغيرها من المشاعر. وأخيرا، يتناول دو لانكر بوضوح شديد مسألة تشرد المجانين، معربا عن استيائه بشكل خاص من «ترك المجانين يتجولون بحرية في جميع الأماكن من دون أن يقيدوا بإحكام، حتى ولو كانوا في الكنائس؛ وذلك لأن المجانين، إضافة إلى كونهم دوما خطرين، يخشى أن يأتوا بأي فعل مذموم ينم عن وقاحة، ولا سيما في حق القربان المقدس.»
لم يكن روبرت بيرتون طبيبا ولكنه كان عالما لاهوتيا وعميدا لكلية أوكسفورد. وقد حقق كتابه «تشريح السوداوية»، الذي نشر في عام 1621، نجاحا باهرا في زمانه.
2
يعد هذا المؤلف كتابا جامعا لكل ما كتب قبله عن السوداوية، كما أنه يقدم في الوقت ذاته - على الرغم من الدلالات الخرافية والمتطيرة - تفكيرا أصليا بشأن الاكتئاب (قبل ظهور الكلمة نفسها)، يتعلق في جزء كبير منه بسيرة الكاتب الذاتية (في الواقع، سيلقى بيرتون مصرعه منتحرا). يدل النجاح الفوري الذي حققه هذا الكتاب على أن الاهتمام بالسوداوية لم يتناقص. فقد اتسع مجال هذا المرض - الجذاب قطعا - ليشمل حقولا جديدة، مثل سوداوية الحب، التي أفرد لها بيرتون فصلا كبيرا في كتابه تحت عنوان (الحب-السوداوية ). بعد ذلك بعامين، نشر جاك فران في باريس «داء الحب أو السوداوية الشبقية». لم يكن هذا المؤلف، الذي ورد به مصطلحا الهوس والسوداوية باعتبارهما مترادفين، ليحظى باهتمام كبير لو لم يطعم ببعض التأملات الفكرية البديعة، التي استحقت لروعتها أن يرد ذكرها في القصص والحكايات (الطريفة) الخاصة بهذه الفترة: «حب النساء أعظم وأسوأ من حب الرجال.» يرجع ذلك إلى العديد من الأسباب؛ من بينها، لدى المرأة، «تقارب الأوعية المنوية». على النقيض، دفعت الطبيعة هذه الأوعية، عند الرجال، «بعيدا خارج البطن؛ خوفا من أن تصاب قوى النفس الرئيسة، والمخيلة، والذاكرة وملكة الحكم على الأمور، باضطراب شديد نتيجة لتأثرها بالأعضاء التناسلية وقربها منها.»
ولكن يتعين أن نعود إلى اثنين من الإنجليز الرواد في هذا المجال؛ وهما بالتأكيد توماس سيدنهام (1624-1689) وتوماس ويليس (1621-1675)، لقب الأول ب «أبقراط الإنجليزي»، واشتهر في البداية بأبحاثه في النقرس (فقد لاحظ هذا المرض ودرسه على نفسه شخصيا)، ويعد من أوائل الذين نظروا إلى الهستيريا على أنها مرض مختلف عن الأمراض الأخرى؛ إذ إنها تستطيع وحدها محاكاة سائر الأمراض المزمنة في مجملها. «هذا المرض متلون ويتخذ عددا لا حصر له من الأشكال المختلفة، فهو أشبه بالحرباء التي تغير ألوانها إلى ما لا نهاية.»
Неизвестная страница