История безумия: от древности до наших дней
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Жанры
أخيرا، استعاد أنصار سياسة اعتقال المتسولين نشاطهم مع موجة حركة أعمال الخير والإحسان التي نمت في فرنسا، خاصة في الفترة ما بين 1640 و1649. وهكذا رأينا قضاة باريسيين بارزين يحرصون، في عام 1651، على المساهمة في إنشاء «متاجر خيرية»، ولكن الدور الرئيس اضطلعت به جماعة سان ساكرمن (القربان المقدس)، التي أنشئت في عام 1629. فلجنة العمل الكاثوليكية هذه - التي كانت نوعا ما سرية - كرست كل جهودها من أجل مشروع معين يتمثل في العمل على اجتثاث التسول والقضاء على البطالة؛ مما يعني باختصار إنشاء المشفى العام، ولكن بنجاح هذه المرة. ومن الجدير بالذكر أن دوقة إيجويون، وهي ابنة أخت الكاردينال ريشيليو وكانت على صلة وثيقة بجماعة سان ساكرمن، ستلعب دورا رئيسا في هذا الصدد. فهي التي أرست، في عام 1634، دعائم مستشفى جالير في مارسيليا، ثم أثارت اهتمام كل من بومبون دو بليافر، رئيس مجلس النواب بباريس، ونيقولا فوكيه، النائب العام وناظر المالية، بخصوص مشروع تأسيس مشفى عام كبير في باريس. ومع ذلك، رأى كثيرون أن هذا المشروع غير قابل للتحقق ووصفوه بأنه «حلم يقظة يراود الأتقياء.» بعيدا عن تأييد ما قاله ميشيل فوكو بأن العصر الكلاسيكي اخترع الاعتقال، ربما يكون من المهم أن نشرح كيف كانت محاولة 1656 باروكية أكثر منها كلاسيكية.
جاء الإعلان الملكي الصادر في أبريل 1656 في صورة مرسوم ملكي ينص على «إنشاء مشفى عام يوضع فيه فقراء ومتسولو مدينة باريس وضواحيها.» يبدأ هذا الإعلان بديباجة طويلة تقر وتعترف بشكل صريح وواضح بفشل التدابير التي اتخذت منذ القرن الماضي «لمنع التسول والبطالة باعتبارهما مصدر كل أشكال الفوضى»، وخاصة محاولة الاحتجاز في عام 1612. ويرجع السبب في هذا الإخفاق إلى نقص الموارد المالية وعدم وجود قيادة قوية بما فيه الكفاية لتولي زمام الأمور. «وصل انحلال المتسولين إلى حدوده القصوى بفعل انغماسهم في كل الجرائم التي تستثير لعنة الله على الدول إذا لم يوضع حد لهذه الأعمال»، فضلا عن أن العديد من هؤلاء المتسولين كانوا يعيشون في غفلة من الدين. وقد نظر بعين الاعتبار إلى هذه المسألة «استنادا إلى الدافع الخيري وحده» وليس «تنفيذا لأوامر بوليسية»؛ (إذ ننظر إلى هؤلاء الفقراء المتسولين باعتبارهم الأعضاء الأحياء للسيد المسيح لا باعتبارهم أعضاء غير نافعين للدولة.) بعيدا عن هذا التمهيد الرائع، فإن الجزء المخصص في هذه الديباجة للحديث بإسهاب عن مروق وزندقة المتسولين، واحتقارهم للشعائر، وعلاقاتهم التي يقيمونها دون زواج، وأطفالهم غير المعمدين؛ يظهر - على الرغم من ذلك - أن مسألة البر وعمل الخير لم تكن هي الدافع الوحيد وراء ما تم اتخاذه من تدابير. كيف يمكن لملك «مسيحي شديد التدين» (وهي صفة شرفية مدعاة للفخر كان يمنحها الباباوات لمن يختارونه من الحكام) في سياق زمن تتمجد فيه قوة الله وتعلو قدرته، وفي ظل مملكة بدأ يجري فيها اضطهاد أعضاء الطائفة البروتستانتية وملاحقة معتنقي مذهب الجنسينية؛ أن يظهر تسامحا إزاء فضيحة كفر المتسولين، أولئك الذين ليسوا أفرادا نافعين للدولة؟ كيف يمكن الاستمرار في تحمل وقاحة وتجاسر هؤلاء المتسولين وتدنيسهم للمقدسات في الكنائس، «فهم أناس يعيشون كوثنيين تحت مظلة المسيحية، يزنون طوال الوقت، ويتساكنون من دون زواج، أو يعيشون بشكل مختلط ضمن مجتمعات جنسية»؟ [تغذية وتهذيب الفقراء]، هذا ما سوف نقرؤه على الوجه الآخر للميدالية التذكارية التي صنعت احتفاء بذكرى إنشاء المستشفى العام.
ولكن ما الذي ينص عليه مرسوم 1656؟ لا شيء إلا الأوامر المعتادة بخصوص منع التسول وإلقاء القبض على المتسولين واعتقالهم، غير أن ما يعتبر أمرا جديدا في الواقع هو الأهمية التي احتلتها المؤسسات التي تحمل اسم المشفى العام، وعددها الذي أخذ يتزايد منذ ذلك الحين. ما يعد أمرا جديدا أيضا هو تخصيص دخول ثابتة لا يستهان بها قادرة - بصرف النظر عن التبرعات المنتظمة - على تمويل نشاط هذه المؤسسات. بالإضافة إلى ذلك، تتجلى هذه الرغبة في الفعالية من خلال الإعداد المتزامن للائحة بغرض مساعدتنا على أن نتبين بشكل أفضل ما هي الفئات المستهدفة التي كانت تحجز في المشفى العام على النحو التالي: الفقراء المتسولون كافة سواء أكانوا سليمي البنية أم عاجزين، ولكن باستثناء أولئك المتزوجين (لن يتم قبولهم في سالبيتريير إلا لاحقا)، والمجذومين، والمصابين بالأمراض التناسلية أو غيرهم من المصابين بأي مرض معد. لن يتم استقبال المتسولين المكفوفين إلا بصورة مؤقتة في المشفى العام، ريثما ينضمون إلى المؤسسات التي أعدت خصيصى لهم (كانز فن وإنكورابل). أما الحمقى، فلم يرد لهم أي ذكر، ولم ينبغي ذكرهم؟ «فالمشفى» لم يكن يقصد به مكان للرعاية والعناية الطبية. هذا صحيح، والدليل على ذلك أن الإجراء المتبع حيال المرضى بالمشفى العام يقضي بأن يجري إما نقلهم - خلال فترة تلقيهم للعلاج - إلى أوتيل ديو، وإما وضعهم في المستوصف التابع للمشفى العام (حيث سيقوم جراحان واثنان من رفقائهما الصيادلة على رعاية هؤلاء المرضى وخدمتهم مجانا). ولكن واقع الحال أن الحمقى مرضى.
كان مشفى باريس العام يتكون من دار لا بيتييه، وملجأ ضاحية سان فيكتور، ودار سيبيون، ودار سافونري، ثم اشتمل بالتبعية على مؤسسة الأطفال اللقطاء ومشفى الروح القدس، ولا سيما منشأتين رئيستين؛ وهما سالبيتريير وبيستر. وقد احتلت مؤسسة سالبيتريير مساحة شاسعة من أراضي الترسانة الصغيرة التي أنشئت في عهد لويس الثالث عشر في الجهة المقابلة للترسانة الصغيرة، على الضفة الأخرى من نهر السين. هذا المجمع الفسيح، الذي كان مخصصا في البداية لصناعة ملح البارود، أصبح فيما بعد مهجورا بالكامل حينما وهبه الملك للمشفى العام. يحتوي هذا المجمع على بعض مخازن الغلة، و«قصر» ومصلى، جميعها بحالة متداعية. ولكن العمل كان يجري على قدم وساق كما تشهد بذلك «يوميات مسافرين شبان هولنديين» في أبريل 1657: «رأينا بالقرب من الترسانة الصغيرة، التي خصصت على نسق بيستر ولا بيتييه من أجل احتجاز الفقراء والأشخاص الذين يتسولون بدافع الكسل في الشوارع، استعدادات كثيرة لإيواء المعوزين: كان قد جرى بالفعل تجميع عدد كبير من هياكل الأسرة، وأفرشة القش والحشايا. ووزعت هذه الأغراض على المباني الكبيرة المتنوعة التي كان بعضها قائما بالفعل والبعض الآخر جرى إنشاؤه. بلغ عدد الفقراء نحو أربعمائة أو خمسمائة فقير. وقد وضعت أوان كبيرة في المطابخ؛ مما يدل على أنه لم تكن هناك رغبة في أن يعانوا من سوء التغذية . إنها أجمل منشأة يمكن أن يراها المرء في حياته.» بعد سالبيتريير، يتطرق مسافرونا الهولنديون إلى الحديث عن بيستر على النحو التالي: «هذه المؤسسة عبارة عن دار تقع على بعد حوالي أربعة كيلومترات من ضاحية سان مارسو. هذا المنزل كبير للغاية، ومحاط بأربعة جدران عالية يحرسها جنود تم تعيينهم في مواقعهم لمراقبة كافة أشكال الفوضى والاضطرابات التي قد تحدث.»
2
أصدر برلمان باريس، فور تجهيز الأماكن، قرارا يلزم جميع المتسولين، أيا كانت أعمارهم، الأصحاء والعاجزين على حد سواء، بالذهاب إلى ساحة لا بيتييه في الفترة ما بين 7 و13 مايو 1657؛ وذلك «حتى يقوم المديرون بإرسالهم إلى الدور التابعة للمشفى العام المذكور وتوزيعهم عليها؛ حيث سيتم إيواؤهم، وإطعامهم، ورعايتهم، وتعليمهم، وتشغيلهم بالورش والمصانع والقطاعات الخدمية التابعة للمشفى العام المذكور.» وهكذا يمكن اعتبار هذا القرار عينه بمنزلة تجديد لحظر التسول في شوارع باريس اعتبارا من ذاك التاريخ. وقد ألقيت عظة رسمية يوم الأحد الموافق 6 مايو في جميع الكنائس الرعوية بباريس، وأرسل مضمونها على هيئة نشرة إلى جميع القساوسة والوعاظ. باختصار، نحن أمام سيناريو 1612 الذي يتكرر من جديد، ولكن النتيجة هذه المرة ملموسة وجديرة بالتقدير: فقد جرى احتجاز ما بين 4000 و5000 متسول في المشفى العام خلال الشهور التالية، وكل ذلك «من دون ذرة انفعال». وعبر الناس عن افتتانهم بمثل هذا الإجراء قائلين: «إنها لمعجزة أن نرى باريس خالية من المتسولين بعد أن كانت تعج بهم فيما مضى.» «تغير وجه باريس في ذلك اليوم، انسحب الجزء الأكبر من المتسولين إلى الأقاليم، أما أولئك الأكثر حكمة فقد فكروا في كسب عيشهم دون استجدائه، والأشد عجزا سجنوا بملء إرادتهم. مما لا شك فيه أن الفضل فيما حدث يرجع إلى عناية الله وحمايته لهذا العمل العظيم؛ لأننا لم نعتقد قط أنه قد ينقضي دون مشقة جمة، ولم نتوقع أن يتم إنجازه ويكلل بالنجاح على هذا النحو.»
3
في الحقيقة، لم يلق القبض إلا على أولئك الذين سلموا أنفسهم؛ أي العاجزين. ومرة أخرى، إذا كان المتسولون الأصحاء القادرون على العمل اختفوا، فهم بالأحرى قد تواروا عن الأنظار في الخلاء وليس في الدور التابعة للمشفى العام.
هناك مشكلة أخرى تتمثل في تمويل العملية. في البداية، كان التنافس قويا، على نسق الهبات التي قدمت من قبل الملك، أو الملكة، أو مازاران (فقد كان الملك يتبرع ب 100 ألف فرنك، وهو ما يعد مبلغا ضخما، لاستقبال المتسولين المتزوجين في مبنى منفصل عن مؤسسة سالبيتريير). ولكن النفقات الضرورية كانت كبيرة للغاية، كما كان من المتوقع أن تتزايد المصروفات مع تزايد عدد المحتجزين. وربما تقدر التكلفة الأصلية للعملية ب 400 ألف جنيه، أو بالأحرى ب 450 ألف جنيه؛ نظرا لزيادة عدد المحتجزين عما كان متوقعا. بيد أن نصف هذا المبلغ كان لا يزال مفقودا في عام 1657، وقد تضاعفت خلال السنوات التالية النداءات التي تحث على العمل الخيري العام. يتناقض كل هذا مع فرضية المستشفى العام الذي يعتبر ثمرة الحكم الملكي المطلق؛ إذ إن هذه الملكية، التي ترسخ نفوذها وتأكدت سطوتها في عام 1661، ستكون فيما بعد مسئولة بشكل جزئي عن انحسار فورة الحماس الرائعة التي كانت قد رافقت تأسيس ذلك المشروع الكاثوليكي العظيم، الذي أطلقته جماعة سان ساكرمن، والمتمثل في إنشاء المستشفى العام. في الواقع، كان القلق يساور مازاران، قبيل وفاته، ومن بعده كولبير حيال تأثير ونفوذ الجماعة، التي كانت تستأثر بجميع الوظائف الإدارية بالمشفى العام؛ حيث كان المديرون يعينون مدى الحياة. وقد دأب كولبير بصورة منهجية على أن يتولى المناصب التي تصبح شاغرة رجال لا ينتمون من قريب ولا من بعيد إلى الجماعة. هذه العلمنة وهذه النزعة إلى إقامة البيروقراطية ساهمتا في إبطاء ثم في إخماد حركة المحبة والإحسان، التي كانت قد أسهمت بقوة في ميلاد المشفى العام.
بإيجاز، يمكن القول إن مستشفى باريس العام كان يحمل، منذ نشأته، جرثومة عدد من الأمراض الانتكاسية، فضلا عن أن هذا المشروع العظيم - حتى وإن كان هناك ترحيب رسمي وسريع بعض الشيء بنجاحه الباهر - صنف «من قبل الشخصيات الحذرة في ذلك العصر، باعتباره خطة من وحي المخيلة أكثر من كونه انعكاسا لصلابة القيادة .»
Неизвестная страница