История безумия: от древности до наших дней
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Жанры
احتجاز المتسولين
إن القرارات الخاصة بمنع التسول وحظر التشرد إذا كان الإنسان سليم البنية وبصحة جيدة تعود إلى فترة بعيدة من الزمن. فنجدها ماثلة بالفعل في مدونة ثيودوسيانوس (المتسولون ليسوا عاجزين)، أو في وثيقة شارلمان القانونية. وفي عام 1166، أثيرت هذه القضية في سياق جلسات كلارندون التي عقدت في عهد هنري الثاني، ملك إنجلترا، في إطار تعزيز السلطة القضائية حيال الخطاب المتعلق بالفقر، ومن أجل التصدي لانتشار الفقراء السيئين ممن كثر عددهم في أعقاب تزايد عدد المتشردين الذين بدءوا يتدفقون على المدن للتسول والاستجداء بها.
1
كان نيقولا أوريسم، أسقف ليزيو في القرن الرابع عشر، ومترجم مؤلفات أرسطو، والفيلسوف وعالم الاقتصاد؛ يرى أن الفقر يضر بالدولة ويسيء إليها، كما كان يعتقد أنه لا بد من إجبار جماعات المتسولين الرهبانية على العمل. وقد لقيت هذه النظريات استحسانا في أوساط الحياة السياسية (والعكس صحيح)، نذكر على سبيل المثال، ذلك المرسوم الذي أصدره جون الثاني ملك فرنسا، الشهير بجون الطيب، في عام 1350، والذي أمر فيه الأشخاص «عديمي النفع والفائدة» بمغادرة باريس. وقد سبقت إيطاليا بقية أجزاء أوروبا في التحضر والتمدن، كما كانت متقدمة كذلك في مجال التشريع. فاعتبارا من القرن الرابع عشر، أصدرت مدينة البندقية قوانين تحظر على المتسولين التشرد في الشوارع، وتفرض عليهم الإقامة في المشافي. وفي عام 1406، تأسست هيئة للتقوى والبر بالفقراء في ميلانو، بحيث تكون مسئولة عن تنسيق المساعدات، وفي الوقت نفسه وضع الفقراء (بما في ذلك عابري السبيل) في دور الضيافة، وهو الإجراء الذي كان متبعا قبل إنشاء المشفى العام بميلانو في عام 1448 (ومن الجدير بالذكر أنه قد جرى إنشاء مشفى آخر في بريشا في عام 1447، ثم أعقبه بناء مشفى آخر في برجامو في عام 1449). وهكذا فإن مصطلح المشفى العام الذي ظهر في ذلك الوقت لم يكن يعني لا مشفى ولا سجنا بالمعنى الذي نعرفه اليوم، وإنما يمكن تعريفه باعتباره مؤسسة تؤوي المتشردين والمتسولين؛ حيث كان يتم استقبالهم والإبقاء عليهم بالقوة. وهكذا ستنشأ ثنائية الإحسان-القمع، وداخل إطار هذه الازدواجية ستكون للمصطلح الثاني الغلبة على المصطلح الأول تدريجيا.
في أواخر القرون الوسطى وفي النصف الأول من القرن السادس عشر، أدت المصائب التي انتشرت في ذلك الزمان إلى تضاعف عدد الفقراء في جميع أنحاء أوروبا. فيما يتعلق بمنطقة حوض البحر المتوسط، يقدر فرناند بروديل عدد الفقراء في ذلك الوقت بما يتراوح ما بين 12 و14 مليونا؛ أي ما يعادل 20٪ من السكان. بالطبع، ليس هؤلاء جميعهم متشردين ومتسولين، بيد أنه حتى لو لم يكن هناك إلا عشر هذا العدد، لما كانت مشكلة الشرطة - التي طرأت بالتبعية - لتصبح أقل حدة: من هم هؤلاء المتشردون؟ تشمل هذه الفئة - على سبيل المثال وليس الحصر - الأفراد الذين يعانون من البطالة الموسمية والعاطلين «المحترفين»، والحجاج سواء أكانوا حقيقيين أم زائفين، أو الواعظين، و«الأوغاد» [الجنود المشتتين]، والعاهرات، و«الشيوخ الهرمين»، والمعوقين، والمكفوفين، والمصابين بالجرب وغيرهم من «المشوهين» (ومن بين هذه الطائفة الأخيرة نجد المختلين عقليا والمصابين بالصرع)، والبوهيميين، «المصريين» والغجر الذين هاجروا إلى أوروبا الغربية في أعقاب الغزو التركي، والذين تم إقصاؤهم وطردهم من مواطنهم الأصلية، والفرنجة الحقراء المتصفين بالوضاعة والخسة و«مراقبي الطريق»، والأطفال المهجورين ... إلخ.
وقد وجهت السلطات العامة والنخب الكثير من اللوم إلى هؤلاء المتشردين: فكان ينظر إليهم باعتبارهم السبب في جلب الطاعون أو الزهري، ذلك الوافد الجديد الذي نشر الخراب والدمار، وباعتبارهم مسئولين عن ارتكاب كافة أنواع الجرائم وأقلها التسول «بكل وقاحة» (أي بالتهديد)، والمشاركة في حركات التمرد المتعلقة بتوزيع حصص الحنطة وفي جميع «الثورات الانفعالية» الشعبية بصفة عامة، بل والتجسس لصالح جهات خارجية. ولكن بالأخص وجه إليهم انتقادان أساسيان؛ أولهما: أنهم يعيشون بلا دين (إن لم يكونوا وراء نشر البدع والهرطقات). وثانيهما، وهو السبب الأكثر أهمية: أنهم عديمو النفع وكسالى. هذا «المنظور السلبي» للفقر أدى إلى الانهيار التدريجي للنظام التقليدي للصدقة الفردية، ولا سيما أن فكر الإصلاح (الكالفينية تدين التسول والتصدق) شهدت انتشارا واسعا وامتدت إلى الدول الكاثوليكية. وهكذا «بدأت أيديولوجية جديدة للاحتجاز تتعارض مع النظرية اللاهوتية القديمة المتعلقة بالصدقة» (جون بيير جوتن). ألم نر البابا بيوس الخامس يصدر مرسوما باباويا بمنع التسول في روما، وإلا يقع المذنب تحت طائلة القانون وتتم معاقبته بالسجن، أو بالنفي أو بالأشغال الشاقة؟ ألم يفكر أيضا في إنشاء معزل للفقراء في المدينة الخالدة؟
وهكذا، بدأت السلطات العامة تحل تدريجيا محل الاختصاص الكنسي في جميع أنحاء أوروبا من خلال الإجراءات التالية: علمنة المشافي، وتفويض مسألة تقديم المساعدات إلى قضاة الدوائر المحلية، وإنشاء مكاتب للصدقات في المدن الكبرى. خلاصة القول أن «الفقر المدقع أصبح مشكلة تمس النظام العام» (جون بيير جوتن)؛ ومن ثم، أصبح من الضروري مراقبة وتنظيم عملية الإحسان، وذلك باتخاذ التدابير التالية: مركزة المعونات وإعادة تنظيم المشافي، ومضاعفة المراسيم الملكية أو القرارات الصادرة من مجالس البلدية بشأن منع التسول، والقول بعدم وجوب إعانة الفقراء إلا في محال إقامتهم (وفقا لمرسوم مولان، الصادر في فبراير 1566). هل هذا يعني أن التيار السياسي-الإداري قد تفوق بالفعل على التيار الديني؟ بالطبع لا، ولن تبقى الحال على ما هي عليه في القرن السابع عشر. بل على العكس من ذلك، الرجوع إلى الكتب المقدسة في عصر النهضة يقتضي، ضمن أمور أخرى، إغاثة ومساعدة الفئات المحرومة. لكن أصحاب نظرية المساعدة، أمثال فيفيس أو ميدينا، نجحوا في تطوير الفكرة القائلة بأن الإحسان لا يمكن ويجب ألا يمارس دون تمييز؛ ومن ثم تتجلى ضرورة التفريق بين الفقراء الحقيقيين ومحترفي التسول، وبين العاجزين والأصحاء. فالفئة الأولى تستحق الصدقة، أما الثانية فتستحق الحبس.
بيد أن هذه النظريات لم تلق قبولا بالإجماع. وقد حاولت بعض الكتابات الاعتراض والرد على ذلك بالقول بأنه من الصعب عمليا التمييز بين الفقراء الجيدين والفقراء السيئين، وأن إلغاء التوزيع المباشر للمعونات والتبرعات على الفقراء ينطوي على مجازفة فقد يؤدي إلى نضوب معين الصدقات (حيث إن أي رغبة في مركزة المساعدات من شأنها أن تفترض حظر هذه الممارسة التقليدية). فما أهمية أننا نتعرض للخداع عندما نتصدق أو نعطي الفقير؟ يقول القديس توماس الفيلانوفي: الأمر لا يعنينا في شيء كما أننا، بالمنطق نفسه، لا نستحق الثواب الأبدي الذي نناله كمكافأة عن هذا الفعل.
ولكن هذا لا يمنع أن قمع الضالين والمتشردين، وبالأخص احتجازهم، بدأ يدخل حيز التنفيذ، ومن جديد برزت إيطاليا في الصدارة. هذه هي الحال في روما، التي كان المتسولون يتدفقون عليها من جميع أنحاء إيطاليا، إلى الحد الذي جعل مونتين يقول مازحا في كتابه «دفتر يوميات الرحلة إلى إيطاليا»: إن «كل فرد، كان يأخذ حصته من إعانات البطالة الكنسية.» وفي عام 1581، أنشئ أول مستشفى في عهد البابا غريغوريوس الثالث عشر، واحتجز به ما لا يقل عن 850 شخصا ما بين متسول وعاجز وكفيف. عقب الانطلاقة الحماسية التي رافقت التأسيس، لم تدم هذه المشافي العامة لوقت طويل، ويرجع ذلك لأسباب مالية. في نهاية القرن السابع عشر، كانت روما بصدد إنشاء المشفى الثالث للفقراء، الذي سرعان ما وصفه «عامة الناس» بأنه مأوى للهالكين الميئوس منهم (حيث لا ينال الشخص إلا اليسير من العناية بانتظار موته). وقد أوفد البابا إينوسنت الثاني عشر واحدا من طلائع اليسوعيين، وهو الأب جيفار، لمواجهة الرأي العام. ورد هذا الأخير على ذلك الادعاء قائلا: إن هذا الكلام ليس صحيحا، وحتى إذا ثبتت صحته، فإن ذلك الأمر لن يعدو أن يكون في النهاية إلا عقابا على خطيئة التسول.
فرضت هذه المسألة نفسها بقوة في فرنسا، خصوصا أن هذه الدولة كانت هي الأكثر اكتظاظا بالسكان في أوروبا (فقد بلغ عدد السكان في أوائل القرن السادس عشر 16 مليون نسمة)، وبالتالي كان عدد الفقراء بها كبيرا مقارنة بالمناطق الأخرى. ورغم ذلك كان لا بد من الانتظار فترة طويلة بما فيه الكفاية إبان ولاية الملك فرانسوا الأول حتى تتضاعف المراسيم الملكية بهذا الخصوص. فالإعلان الملكي الصادر في 7 مايو 1526 تصدى في البداية لمشكلة أكثر أهمية، كما هي الحال بالنسبة إلى روما، تتعلق بالعاصمة. هناك العديد من النماذج البشرية التي كان يجري الزج بها في السجن أمثال «المتشردين العاطلين، والأشخاص سيئي السلوك والتصرف، والأفاقين، ولاعبي الورق والنرد، والمجدفين على اسم الله، والقوادين، والشحاذين سليمي الجسد القادرين على العمل الذين بإمكانهم كسب معيشتهم بطريقة أخرى غير التسول ...» وقد سار برلمان باريس على الدرب نفسه حين أصدر في عام 1532 قرارا يقضي بإرسال المتسولين الأصحاء لتسليك وتنظيف مصارف المياه بباريس، ولتنظيف الشوارع والمجاري، وللعمل في المناطق المحيطة بالحصون والأسوار. وسيتم إطعامهم وإيواؤهم، ولكن مع الحرص على «إخضاعهم بشدة وقسوة قدر الإمكان». وقد صدر مرسوم ملكي مماثل في 26 مايو 1537، وتم تعميم سريانه على المملكة بأكملها.
Неизвестная страница