ولما وصل أنطيوخس إلى أنطاكية أصدر أمرا إلى سكان ممالكه للتدين بديانة اليونان، وكل من لا يمتثل أمره يعاقب أشد العقاب وبعث رجلا لئيما اسمه أثينيوس ليعلم اليهود طريقة عبادة الأصنام، فجاء أورشليم وأطاعه بعض ضعفاء اليهود وساعدوه فأبطل الذبيحة اليومية ومنع طاعة الدين الحق ودنس الهيكل بوضعه صنم زفس على مذبح الوقود وتقديمه الخنازير ذبائح له، وطغى فحرق ما وجده من نسخ التوراة، وأكره اليهود على عبادة الأصنام وعدم حفظ يوم السبت، ومنعهم من ختان أولادهم وتقديس كل شهر وفرائضه، وكان يقتل من يخالفه بعدما يذيقه من العذاب ألوانا، ولما علم أن امرأتين ختنتا ولديهما علق الوالدتين وعلق الطفلين بعنقيهما وأماتهما أشنع ميتة، ويروى عنه كثير من أمثال هذه الفظائع.
ولما عم البلاء وزاد شر أتباع أنطيوخس هرب من أورشليم جماعة من اليهود وفيهم متاثيا الكاهن، وكان شيخا جليلا من نسل يهوياريب الصالح من سبط لاوي، فجاء مع بنيه الخمسة: يوحنا وسيمون ويهوذا والعازر ويوناثان إلى وطنهم الأصلي مدينة مودين في بلاد الفلسطينيين، وكانت عائلة متاثيا تلقب بالحشمونية، فلما اشتهر ابنه يهوذا بشجاعته وحسن تدبيره غلب عليه لقب مكابيوس، فنسب إليه قومه فصاروا يسمون مكابيين إلى اليوم.
ولما كان متاثيا وأولاده في مودين تبعهم رجل من رؤساء أنطيوخس اسمه أبلس وبنى مذبحا للأوثان وأمر متاثيا وسكان مودين أن يمارسوا عبادة الأوثان ويذبحوا لها، وأطاعه بعض اليهود فغار متاثيا للرب إله السماء والأرض، وهجم بأولاده وقتلوا أبلس، والذي رام طاعته من اليهود وهدموا مذبح الأوثان وكسروا الأصنام، ونادوا بوجوب الدفاع عن شريعة الله الطاهرة، فانحاز إليهم كثيرون من أبناء ملتهم المشهورين بالغيرة والأمانة وفروا إلى الجبال، وكان ذلك سنة 168ق.م، ثم اتفق متاثيا مع أبناء وطنه ورجع بهم إلى اليهودية، فكسروا جميع مذابح الأوثان، واستأصلوا خدامها في كل المدن التي مروا بها وأعادوا الختان وعبادة الله الحقيقية سنة 167ق.م، وتقدم متاثيا في السن فأقام ابنه يهوذا خليفة له على الجنود اليهودية، فجاء يهوذا الباسل بقومه الأمناء وهاجم الأعداء على غير انتظار منهم، فانتصر عليهم وأبلى فيهم بلاء مرا، فاجتمع حوله اليهود الصادقون فدربهم على القتال ومقاومة الأعداء، وتشجع عسكره بعد هذه الغلبة حتى أتى الحرب جهارا، فالتقى بجنود أنطيوخس في بيت حورون فهزمهم شر هزيمة على قلة عدد رجاله.
ولما سمع أنطيوخس بما تم تميز غيظا وصمم على إهلاك اليهود، وجعل أورشليم مدفنا لهم وعين أحد قواده المسمى ليسياس وأصحبه بجيش جرار، فجاء هذا بأربعين ألف راجل وسبعة آلاف فارس أتى منهم نحو عشرين ألفا إلى عمواس بين يافا وأورشليم، وكان يهوذا (مكابيوس) في مصفاة ومعه نحو ستة آلاف مقاتل منهم، وبلغه أن فرقة من الأعداء جاءت لتكبسه فخاف رجاله ولم يبق معه سوى ثلاثة آلاف، فخطب فيهم قائلا: من كان خائفا فليرجع وشجعهم، وجاء بهم ليلا وكبس الأعداء في المحلة، فهزمهم إلى نواحي أشدود، ثم رجع فحارب الذين جاءوا ليبيتوه، وكانت قلوبهم قد هلعت لما علموا ما جرى برفاقهم في المحلة فهربوا تاركين أسرى كثيرين، وبينهم جماعة من النخاسين حضروا بمال كثير ليشتروا من يؤسر من اليهود، فغنم اليهود مالهم وباعوهم عبيدا.
ثم استولى اليهود على حصون جبل جلعاد المنيعة، وفي السنة التالية قهر يهوذا ليسياس نفسه في بيت صورا بين حبرون وأورشليم، وكان مع ليسياس نحو 60000 مقاتل فارتد منهزما، ثم استولى يهوذا على أورشليم سوى البرج، وطهر الهيكل وأقام الخدمة الدينية فيه لثلاث سنين منذ ألغاها أنطيوخس، وكان ذلك سنة 165ق.م، ولما أخذ بعض أمم المجاورة يضايقون من طالته أيديهم من اليهود شن يهوذا الغارة عليهم كالأدوميين وبني عمون فكسرهم وانتقم منهم، ثم سار في جيش إلى عبر الأردن وغلب السوريين في جلعاد، وأخضع البلاد بأسرها ونقل اليهود الساكنين فيها إلى اليهودية بغية حمايتهم، وفي أثناء ذلك بعث أخاه سيمون إلى الجليل ومعه نحو 3000 راجل فقهر العدو وخلص اليهود من ضيقاتهم، ولكن اليهود الذين في اليهودية انهزموا؛ لأنهم ناوشوا السوريين في غيبة يهوذا بغير أمره توهما أنهم قادرون على المحاربة دونه، لكن يهوذا عاد فغلب السوريين، ولا ريب في أن نجاح اليهود كان متوقفا على نباهة يهوذا وبأسه أكثر من غيره.
ومات أنطيوخس الرابع سنة 164ق.م بعدما أصيب بمرض مؤلم وانقضت حياته الأثيمة، فلما بلغ ذلك ليسياس نائبه نادى بملك ابنه الصغير الذي كان استودعه إياه أباه، وكان عمره 12 سنة ودعي أنطيوخس الخامس الملقب بيوباتور وأخذه ليسياس معه، وسار لنجدة السوريين المحصورين في برج أورشليم، وكان جيشه عظيما بلغ نحو مائة ألف راجل وعشرين ألف فارس، وكان فيه 32 فيلا هالت قلوب اليهود، واشتد القتال عند بيت صورا، وكان اليهود قليلين بالنسبة إلى الأعداء، لكنهم لم يجبنوا وأظهروا غاية البأس وأبرز العازر أخو يهوذا من الشجاعة ما يقصر عنه الوصف فإنه هاجم أحد الأفيال، ودخل تحت بطنه وطعنه بسيفه فقتله، لكن الفيل وقع عليه فقتله، ومع أن اليهود ثبتوا وأعجبوا في القتال لم يقدروا على قهر الأعداء لكثرة عددهم، فارتدوا إلى أورشليم وخضع بيت صورا للسوريين وتقدم ليسياس وحاصر أورشليم ولم يقدر على افتتاحها حتى سمع بقدوم فيلبس إلى أنطاكية وامتلاكها، فأراد ليسياس مصالحة اليهود؛ لكي يرجع إلى سورية فصالحوه إذ كانوا قد أشرفوا على الموت جوعا وعاهدهم ليسياس بأنه لا يضر بهم ويطلق لهم الحرية الدينية ففتحوا الأبواب فدخل السوريون ولم يقوموا بالعهد، فهدموا سور الهيكل وعينوا إنسانا يقال له: ألكيمس رئيس الكهنة على شرط أنه يخضع لهم.
ثم رجع ليسياس وأنطيوخس إلى أنطاكية وقتلا فيلبس وطردا جماعته ونجا ديمتريوس بن سلوقوس من رومية، فجاء إلى أنطاكية وقتل ليسياس وأنطيوخس الصغير سنة 162ق.م، وتولى الملك باسم ديمتريوس الأول ولقب بصوتير، ولما سمع الكيمس بذلك نزل إلى أنطاكية ليسالمه فحصل على ما أراد وأغوى ديمتريوس أن يوجه في صحبته قائدا يسمى بكديس في جيش جرار لمقاومة يهوذا في أورشليم، ولما لم ينجح بكديس عاد إلى أنطاكية فجهز ديمتريوس جيشا آخر في مقدمته رجل يسمى نيكانور ولاقاه يهوذا وقهره فلاذ القائد بالبرج في أورشليم، إذ كان في أيدي السوريين واستغاث بهم فأمدوه فخرج لمحاربة يهوذا، ولم يكن مع يهوذا سوى ألف راجل فاقتتلوا في أداسه في نواحي رمله، واشتد القتال على يهوذا، ولكن الله نصره فقتل نيكانور وكل من معه وأتي برأس القائد وعلق بسور في أورشليم، أما يهوذا فشاع صيته وطلب معاهدة رومية يومئذ فأجابته وكتبت مشيختها إلى ولاتها وأعوانها أن يحترموا اليهود إلا أن ذلك لم يجد يهوذا نفعا؛ لأن كثيرين من حزبه حسبوا استغاثة الوثنيين حراما وإهانة لله، وقدم بكديس سنة 161ق.م، في نحو عشرين ألفا ولم يستطع يهوذا أن يحشد أكثر من 3000 مقاتل، ولما قرب القتال خرجوا عليه سوى 800 منهم، ومع ذلك لم يخف يهوذا ولحق العدو في نواحي أشدود وحمي وطيس القتال، وثبت اليهود وقتا طويلا، وكان آخر الأمر أن نادى يهوذا رجاله قائلا: قد حضر أجلنا فلنمت كالأبطال، فحملوا على ميمنة العدو، حيث بكديس نفسه وكسروه وطردوه، غير أن الميسرة دارت من خلفهم، ولما كانوا قليلين أحاط بهم العدو وقتل يهوذا وأكثر رجاله وانتصر السوريون ولم يكن لهم في ذلك فخر؛ فإن اليهود فاقوهم شجاعة وبأسا، ولا سيما يهوذا، فكان يستحق ما مدح به ليونداس بطل اليونان المشهور، وكان ذلك سنة 161ق.م.
وورد في التاريخ العبري أن متاثيا كان حيا لما بلغه خبر موت ابنه يهوذا، فلما رأى اضطراب باقي أبنائه وشعبه شجعهم قائلا: فقدتم واحدا ولكن أمامكم رجالا كثيرين يؤمل الفرج عن يديهم وانتصارهم على أعدائكم ، فاذهبوا إلى ساحة القتال غير وجلين ولا خائبين، وتوفي متاثيا بعد يهوذا بشيبة صالحة.
وتمكن بكديس من التسلط على أورشليم بعد موت يهوذا وظلم اليهود كثيرا، وثقل نيره عليهم حتى استصرخ اليهود إخوة يهوذا فأجابوا ولم يبق منهم غير يوناثان وسيمون، وقام الأول قائدا عوضا عن أخيه فحشد جيشا جديدا في البرية؛ لأنه لم يتجاسر أن يحارب جهارا كأخيه فأقام في مستنقعة قرب الأردن، ولما عرف بكديس بذلك أوقع باليهود في يوم سبت لظنه أنهم لا يقاومونه يومئذ، فحرض يوناثان قومه على أشد قتال ففعلوا وقتلوا أكثر من ألف من الأعداء، ثم رموا بأنفسهم إلى النهر ونجوا إلى العبر ورجع بكديس إلى أورشليم خاسرا، ولما لم ير نجاحا ترك البلاد مدة، لكنه رجع بعد ذلك، وكان الفريقان يقتلان ويغزوان كل ما تيسر لهما، وبذل بكديس جهده في أن يتمكن من يوناثان ولم يستطع ولا أن يخضعه، فمل من الحرب وقطع معه عهدا أنه لا يقلق اليهود بعد فعاد إلى بلاده سنة 158ق.م ولم يرجع، وكان إيناس الحبر في مصر فاتخذ يوناثان الوظيفة الكهنوتية في أورشليم مع منصب السياسة.
وحصل اليهود على السلام نحو ست سنين بعد ذلك وحكم يوناثان بالاستقامة وأصلح ما أمكن من الأمور، ثم وقع الخصام بين ديمتريوس وإسكندر بالاس
Неизвестная страница