ظهر سيبيو الذي نذكره الآن على مسرح الحروب الحالية كقائد إحدى الفرق بعد معركة كانيه فهو كان ضابطا وضيعا، وفي اليوم الذي تلا المعركة وجد نفسه في مكان اسمه كانوسيوم يبعد مسافة قصيرة عن كانيه على الطريق المؤدي إلى رومية، ومعه ضباط آخرون في مثل رتبته، وتحيط بهما فرق ممزقة من الجيش الروماني تجيء بعضها وراء بعض من ناحية المعركة تعبة محلولة القوى وفي أشد حالات اليأس.
وشاع في الناس أن القنصلين قد قتلا؛ ولهذا لم يكن هناك من يقود تلك الفلول من الجيش الروماني، فعقد أولئك الضباط اجتماعا للنظر في ذلك، وأجمع رأيهم على جعل سيبيو قائدا لهم في ذلك الوقت الحرج إلى أن يصل من هو أرفع منه في القيادة أو يأتيهم نبأ من رومية، وقد حدثت عندئذ حادثة دلت بما لا ريب فيه على ما اتصف به سيبيو الشاب من الشجاعة والإقدام.
ففي الاجتماع نفسه الذي عقد لجعله قائدا كان الكل متحيرين وقد شملهم الهم والارتباك، جاءهم أحد الضباط وأخبرهم أن قد عقد اجتماع في ناحية أخرى من المعسكر مؤلف من ضباط وجنود ذوي رتب عالية يرأسهم الضابط ماتيلوس، وقد قر رأيهم جميعا على ترك أمر الذود عن بلادهم يائسين وعلى القيام بما يوصلهم إلى الشاطئ، ويساعدهم على إيجاد عدة سفن يمخرون فيها البحر إلى وطن جديد يتخذونه في بلاد أجنبية؛ اعتقادا منهم بأن الأقدار قد قضت على بلادهم بالخراب المحتم.
وقال لهم ذلك الضابط: إني قد جئتكم بخبر ما جرى؛ لتجتمعوا معهم وتتفاوضوا معهم فيما الذي يجب علينا القيام به من هذا القبيل، فهب سيبيو من مجلسه وقال: «نجتمع للمفاوضة! إن الحالة لا تدعو إلى المفاوضة بل إلى العمل - إلى الفعل - فجردوا سيوفكم واتبعوني.» وإذ قال هذا سار يتبعه الكل إلى الاجتماع الذي يرأسه ماتيليوس، ودخلوا لفورهم إلى المكان الذي كان القوم مجتمعين فيه يتفاوضون، وهناك أمسك سيبيو مقبض سيفه، ولفظ بكل وقار يمينا معظمة قيد بها نفسه بألا يترك بلاده ولا يتخلى عنها في ساعة شدتها، ولا يسمح لأي روماني بالتخلي عنها.
وقال إنه إذا ارتكب ذنب الخيانة هذا؛ فإنه يسأل المشتري بأشد اللعنات أن يمحقه ويهلكه بالكلية هو وبيته وعائلته وأملاكه وجسده، ثم خاطب ماتيليوس قائلا: «والآن أطلب إليك وإلى من معك من الرفاق أن تقسموا اليمين التي أقسمتها أنا، ويجب عليكم أن تقسموا هذه اليمين في الحال وإلا كنتم مضطرين إلى الدفاع عن أنفسكم من شفار سيوفنا، ومن سيوف القرطجنيين أيضا.»
فانصاع ماتيليوس وجماعته وأطاعوا في الحال، ولم يكن انصياعهم ناتجا عن الخوف فقط، بل بقدر ذلك عن الرجاء، فإن شجاعة سيبيو والطريقة المهيبة التي خاطبهم بها بعد أن حلف اليمين قد أثارت فيهم روحا جديدة من الشجاعة، وبعثت في صدورهم الآمال بالتمكن من الدفاع عن بلادهم، وإنقاذها من صولة الأعداء الذين اجتاحوها.
وكانت أخبار الكسرة المشئومة التي أصابت الرومانيين قد بلغت رومية بسرعة، فأحدثت حزنا شاملا، وضجت المدينة من أقصاها إلى أقصاها؛ لأن الجيش كان مؤلفا من كل عائلة، فكل امرأة وكل والد قد نالهم من أخبار انسحاق الجيش الروماني المقعد المقيم، والمحزن على الأزواج والآباء والأبناء الذين قد صرعوا في المعترك، وزاد في طنبور الحزن نغمة قبيحة خوف شديد من أن هنيبال وجيشه الفاتح قد يدخل أبواب المدينة في كل ساعة فيبطش بهم جميعا.
وغصت شوارع المدينة ولا سيما ساحتها الكبرى بجماهير الناس من رجال ونساء وأولاد، وضج الفضاء بأصوات صراخهم ونحيبهم الناجم عن الذعر والاحتساب لنازلة جديدة تنقض عليهم، وعجز القضاة عن إعادة الطمأنينة إلى الصدور وإرجاع النظام والسكينة إلى نصابهما. أما مجلس الشيوخ فإنه انفض وأجل انعقاده؛ وذلك لكي يتوفر الوقت لأعضائه، فيتجولوا في المدينة ويبذلوا ما لهم من السلطة والنفوذ في إسكات الشعب عن الصياح، هذا إذا هم عجزوا عن إعادة الطمأنينة.
أخيرا خلت الشوارع من الناس وأصدرت الأوامر إلى النساء والأولاد بالبقاء في البيوت، فأرسلت طوائف من الجلاوزة في أنحاء المدينة؛ لكي يمنعوا تجمهر الناس وهياجهم، وبعد هذا عاد مجلس الشيوخ إلى عقد جلساته محاولا التؤدة والتروي الممكنين البحث فيما الذي يجب عليهم القيام به تحت الظروف الحاضرة.
وكان الرعب الذي استولى على رومية من بعض الوجوه بلا موجب؛ لأن هنيبال بخلاف ما توقعته إيطاليا كلها لم يزحف على رومية مع أن قواده قد ألحوا عليه كثيرا في وجوب القيام بذلك قائلين إنه لا يوجد ما يقف في وجهه أو يحول دون استيلائه على المدينة بسهولة، أما هنيبال فقد أبى عليهم ذلك؛ فإن رومية كانت ذات تحصينات منيعة وفيها خلق كثير، ثم إن جيشه من الجهة الأخرى كان منهوك القوى ضعيفا بعد معركة كانيه، ففضل عدم محاولة ضرب رومية والتريث إلى أن تصله نجدات جديدة من الوطن.
Неизвестная страница