والذي أراه - إن لم أكن مخطئا - هو الصعوبة الكبرى التي ستواجهها ليست هي العدو الذي ستنازله في ساحة القتال، بل ستجد أن زميلك فارو سيتعبك كما يتعبك هنيبال نفسه؛ إذ يكون كثير الصلف والخيلاء عنيدا ومتطرفا في المخاطرة، وهو سيبعث في صدور الشبان الذين في الجيش روح التهجم بجهله وتطرفه، فيحمله على ما لا يجوز، ويكون حظنا عظيما إذا كانت مشاهد عراك بحيرة تراسمين الدموية لا تعاد مرة أخرى بسببه.
وأنا على يقين من أن السياسة الحكيمة التي يتعين علينا العمل بها هي تلك التي رسمتها أنا، فهي الطريقة الوحيدة التي يجب أن يجري عليها الذين يحاربون في عقر دارهم تجاه مهاجميهم، إذا كان هناك أقل شك في نجاح العراك، فنحن بالإبطاء نزداد قوة بينما هنيبال يزداد ضعفا، فهو يبقى مغتبطا ما دام معاركا وقائما بخوارق الحركات الحربية، فإذا حرمناه هذه القوة تنحل صولته مع الأيام وتضعف شجاعة رجاله وينفد نشاطهم، ولا يوجد معه الآن سوى ثلث الجيش الذي كان معه يوم عبر نهر إيباروس، ولا يوجد شيء في العالم ينقذ هذه البقية الباقية من جيشه من الهلاك إذا كنا حكماء.»
فأجاب أميليوس على هذا بقوله أنه رضي بالدخول تحت أعباء هذه المسئولية بشجاعة قليلة واليسير من الرجاء؛ لأنه إذا كان فابيوس قد وجد صعوبة كلية في احتمال تصلف رئيس فرسانه الذي كان دونه في الوظيفة وتحت إمرته، فكيف يأمل هو التمكن من كبح جماح زميله الذي تخوله الوظيفة حق المساواة به من كل وجه؟ ولكنه بالرغم من هذه المصاعب والمثبطات التي يراها أمام عينيه؛ فإنه سيقوم بالواجب عليه ويرضى بالنتيجة، فإذا جاءت النتيجة على خلاف ما يتمنى؛ فإنه سوف يحاول الموت في المعترك لأن موته بحراب جنود قرطجنة أخف شرا في عرفه من غضب مواطنيه وتعنيفهم.
فغادر القنصلان رومية للانضمام إلى الجيش، وكانت حاشية أميليوس مؤلفة من عدد معتدل من الرجال من أرباب المقامات والرتب، أما فارو فقد استصحب من هؤلاء جمعا غفيرا، ولكنهم من أسافل القوم وغوغائهم، فتنظم الجيش وأكملت التدابير لمعسكراته وعندئذ أقيمت حفلة تحليف الجنود اليمين؛ جريا على عادة الرومانيين عند مباشرتهم حربا.
فكان الجنود يحلفون اليمين متعهدين بأنهم لا يفرون من الجيش، ولا يبارحون المراكز التي يعهد إليهم في حراستها من خوف أو هزيمة، وألا يتركوا الصفوف إلا لجلب السلاح أو لاسترجاعه أو لضرب عدو أو لحماية صديق، وعند الفراغ من هذه التدابير وغيرها أصبح الجيش على قدم الزحف، واتفق القنصلان على اقتسام السلطة بطريقة تختلف عن التي عمل بها فابيوس وفلامينيوس؛ فكان اتفاقهما على أن يتولى كل واحد منهما السلطة يوما واحدا بالتعاقب.
وفي غضون ذلك كان هنيبال يعاني البلاء المر في إيجاد أقوات لرجاله، فإن سياسة فابيوس ضيقت عليه المسالك التي كانت تزداد ضيقا يوما عن يوم وتعرقل مساعيه، فلم يكن يستطيع الحصول على القوت إلا إذا طلبه بالسلب والنهب، حتى إن ذلك كان متعذرا عليه في هذا الحين؛ لأن الأهليين كانوا قد جمعوا كل الحنطة واختزنوها في بلدان قوية التحصين، ومع اقتدار هنيبال وثقته بنفسه على منازلة الجيش الروماني في معركة نظامية وفي ساحة مفتوحة والتفوق عليه؛ فهو قد كان عاجزا عن خرق الحصون وتدمير المعاقل.
وكان القوت الحاضر لديه قريبا من النفاد، حتى إنه لا يكفي جيشه لأكثر من عشرة أيام، ولم ير وسيلة للاستزادة منه، ومن أجل هذا كان تائقا إلى جر العدو للعراك، فالقنصل فارو كان ميالا شديد الرغبة في إجابته إلى ما يريد، ولكن بولس أميليوس كان ميالا إلى اتباع الخطة التي سلكها فابيوس إلى أن تنتهي العشرة أيام؛ لعلمه أن هنيبال يصبح عندئذ في أشد الضيق وقد يضطر إلى التسليم لينقذ جيشه من غائلة الجوع.
وفي الواقع أن أرزاق الجند أصبحت قليلة إلى حد كثرت عنده الشكوى والتذمر، وهم كثيرون من الجنود الإسبانيين بمغادرة جيش هنيبال والفرار إلى معسكر الرومانيين، وظلت الحال كذلك إلى ذات يوم أرسل فيه هنيبال جماعة من رجاله في طلب القوت، وكان أميليوس ذلك اليوم متوليا القيادة فوجه قوة من جيشه لتمنعهم من ذلك، فأدرك بهذا ما أمله من النجاح، ولقيت جماعة هنيبال اندحارا مشئوما.
فقتل منها نحو ألفي رجل وهرب الباقون في كل سبيل وجدوه عائدين إلى معسكر هنيبال، وكان فارو شديد الرغبة في ملاحقتهم إلى هناك، ولكن أميليوس أمر رجاله بالكف عن ذلك؛ لأنه كان خائفا من مكيدة أو حيلة مدبرة من هنيبال للفتك بهم، فاكتفى بما أحرزه من الفوز في تلك الوقعة، وكان هذا الفوز عاملا على إلهاب صدر فارو بالشوق إلى العراك وإثارة روح الإقدام في الجيش كله، وقد حدث بعد يوم أو يومين ما أوصل تلك الحدة إلى أرفع الدرجات.
فإن بعض الكشافة من الجيش الروماني الذين كانوا قائمين مقابل معسكر هنيبال؛ لملاحظة ما يدور فيه أبلغوا القنصلين أن حراس الجيش القرطجني القائمين حول المعسكر قد اختفوا فجأة، وأن قد ساد سكوت عظيم في المعسكر القرطجني بجملته الأمر الذي كان من خوارق العادة في المعسكرات.
Неизвестная страница