وفي الواقع أن فريقا كبيرا من الغاليين في المعسكر الروماني وهم مناصرون للرومانيين، وكانوا يحاربون تحت راية سيبيو في معركة تيسينيون تركوه بعد ذلك، واجتمعوا تحت لواء هنيبال بجملتهم وقاموا بهذه الفتنة ليلا، وبدلا من أن يذهبوا إلى معسكر هنيبال سرا متسللين أحدثوا لغطا كثيرا وقتلوا الحراس، وملئوا المعسكر صياحا وتهديدا، وأوقعوا الرعب في قلوب بقية الجنود.
فرحب بهم هنيبال ولكنه كان كثير الحذر وأوفر الدهاء، فلم يجازف في مزج هذه الطائفة الخائنة في جيشه، على أنه بالغ في إكرامهم والحفاوة بهم وعاملهم بمنتهى الملاطفة، وأتاح لهم الرجوع إلى أوطانهم مثقلين بالهدايا وأوصاهم بالسعي لما يؤيد مصلحته بين القبائل التي أتوا منها، وكان جيش هنيبال قد ازداد شجاعة وكبرت آماله بما جرى في بدء هذه الحرب، وهكذا أخذ في الاستعداد الضروري لعبور النهر.
فمن الجنود من ابتنوا أرماثا ومنهم من سار إلى أعالي النهر بقصد العثور على رقراق يعبرون منه، ومنهم من قطع النهر سباحة، وكانوا في قطعهم النهر على تلك الصورة مطمئنين غير مبالين؛ لأن الرومانيين لم يرصدوا لهم ولا وقفوا ليصدوهم عن ذلك، بل ولوا الأدبار ممعنين في الهزيمة بأسرع ما استطاعوه وهم حاملون سيبيو الذي أخذت جراحه في التورم والفساد، وسببت له الآلام الشديدة.
وفي الواقع أن الرومانيين كانوا قد خاموا ويئسوا لما رأوه من الخطر المحدق بهم، وحالما وصل الخبر إلى المدينة أسرعت الحكومة بإرسال سعاة إلى سيسيليا؛ لاسترجاع القنصل الآخر وكان اسمه سمبرونيوس، ويذكر القراء أنه عندما ألقيت القرعة بينه وبين سيبيو قضت على هذا الأخير بالذهاب إلى إسبانيا؛ ليوقف زحف هنيبال وتعين على سمبرونيوس الذهاب إلى سيسيليا؛ لكي يمخر من هنالك إلى أفريقيا.
وكان الغرض من هذه الخطة مهاجمة قرطجنة وتهديد القرطجنيين في أوطانهم؛ لكي يشغلوهم هناك ويمنعونهم من إرسال النجدات إلى هنيبال، ويلجئوهم إن أمكن إلى استدعائه من إيطاليا؛ لكي يذود عن حياضهم ويدافع عن عاصمتهم.
أما الآن وقد اجتاز هنيبال جبال الألب وتجاوزها إلى ما وراء نهر «بو»، وهو زاحف على رومية وسيبيو مثخن بالجراح وجيشه منهزم أمامه لا يلوي على شيء، فقد اضطر الرومانيون إلى العدول عن تهديد قرطجنة، وأنفذوا الرسل إلى سمبرنيوس يأمرونه بالرجوع إلى رومية؛ ليساعد في الدفاع عنها، وكان سمبرونيوس معروفا بحدة المزاج لخوض الغمرات.
فرجع في الحال إلى إيطاليا وجند عساكر جديدة لجيشه واقتاده زاحفا نحو الشمال؛ للاجتماع بالقائد سيبيو على نهر «بو»، وكان سيبيو يتألم من جراحه الخطرة بحيث لا يقوى على إدارة أمور جيشه، وقد تقهقر ببطء أمام هنيبال فزاد المسير في آلامه التي نفرت وجاشت بسبب حركات السفر الدائم، فوصل على تلك الحالة إلى ثرابيا وهو نهر صغير يجري شمالا ويصب في نهر «بو» وعبره، على أنه رأى نفسه عاجزا عن متابعة المسير بالنظر إلى اشتداد الآلام ، فأوقف الجيش وأمره بأن يعسكر هناك وأقام التحصينات حول معسكره وتأهب للوقوف في وجه العدو.
ولحسن طالعه انكشفت غمته بوصول سمبرونيوس وجيشه إليه وهو هناك فاتحد الجيشان، وهكذا التقى هناك قائدان، وكان نابوليون يقول: إن قائدا جاهلا خير من قائدين خبيرين؛ ذلك لأن من الأمور الجوهرية للفوز في كل الحركات العسكرية حصول السرعة والثقة والتصميم بدون أقل تردد، وهو لا يتم إلا إذا توحدت القيادة وصدر الرأي عن فكر واحد مستقل.
وقد صح قول نابوليون هنا؛ فإن سمبرونيوس وسيبيو اختلفا على الخطة التي يجب العمل بها؛ إذ إن سمبرونيوس أراد مهاجمة هنيبال مباشرة أما سيبيو فأشار بالتأني، وعزا سمبرونيوس تردد سيبيو عن الابتداء بالعراك إلى الذعر الذي استولى عليه وانحلال عزيمته بما ناله من جراحه، أو أنه مدفوع بالحسد من أن يحرز سمبونيوس شرف البطش بالقرطجنيين وحده، بينما سيبيو طريح الفراش في مضربه، وكان سيبيو من الجهة الأخرى يظن أن سمبرونيوس غير مترو أو أنه مغامر في تصميمه على خوض المعمعة لمجالدة عدو لا يعرف عن قوته وبطشه شيئا.
وفيما كان القائدان مختلفين في الرأي بشأن العراك المقبل حدثت مناوشات غير ذات بال بين طرفي الجيش، ظن سمبرونيوس عندها أن الميزة حاصلة بجانبه، فزاد ذلك في تهوسه وعول على استجلاب عراك عمومي، وأصبح كارها لتردد سيبيو وحذره، وقال لسيبيو: «إن الجنود تائقة إلى الكفاح وهي قوية وعلى جمام، فمن الحماقة أن نمسكها عن ذلك بسبب تراخي رجل واحد مريض، وفضلا عن ذلك ما الفائدة من التأجيل؛ فنحن على أتم أهبة لمنازلة القرطجنيين أكثر من أي وقت آخر.
Неизвестная страница