ومن المعلوم أن جبال الألب ليست كلها في سويسرا، بل إن منها في جوار مقاطعة سافوى ما هو مشهور بعلوه الشاهق وانحداره المخيف، والبلاد منقسمة إلى مقاطعات صغيرة تسمى اليوم «كانتون» وقد كانت كذلك في أيام الرومانيين، وعلى هذا فإن هنيبال في تسياره بعد اجتياز المضيق الذي تقدم وصفه تدانى من حدود مقاطعة أخرى، وبينما هو يتقدم ببطء نحو تلك المقاطعة ومن ورائه جيشه الجرار يتسلل من الأودية كالأفعى لقيه وفد أرسلته حكومة المقاطعة المذكورة، وجلب ذلك الوفد معه أقواتا مختلفة من الأدلاء، وقال رجال الوفد له: إنه قد اتصل بهم ما نزل بالمقاطعة الأولى من الدمار لمحاولة أهلها مقاومة مرور الجيش القرطجني فيها، وأنهم هم لا يريدون تجديد مثل ذلك العمل الدال على الحماقة، ومن أجل هذا جاءوا ليعرضوا على هنيبال صداقتهم ومناصرتهم، وأنهم قد جلبوا معهم عددا من الأدلاء؛ لكي يرشدوا الجيش إلى أفضل الدروب في الجبال وكميات من الأقوات، ولكي يبرهنوا على إخلاصهم عرضوا على هنيبال رهائن.
وكانت هذه الرهائن شبانا وأولادا هم أبناء أعيان البلاد عرضوهم؛ ليكونوا تحت مطلق تصرف هنيبال يحتفظ بهم إلى أن يستيقن من إخلاصهم فيما أقدموا عليه، وأن عملهم هذا بريء من الخديعة. ولما كان هنيبال معتادا الدهاء والخداع حار في أمره بادئ ذي بدء؛ لأنه لم يدر ما إذا كان الذي عرضه القوم من دلائل الإخلاص حقيقيا أم لا، وما إذا كانوا يحاولون بذلك حمله على الطمأنينة؛ لكيلا يحتاط لشر ولا يحتسب لمكر.
وجال في فكره للحال أن عمل الوفد هذا قد يكون من قبيل الخدعة، فيقتادون جيشه بعد أن يستسلم لهم إلى مهواة عميقة أو إلى مضيق بين شواهق الصخور، وهناك ينقضون عليه ويفتكون به. على أنه قرر أن يعطيهم جوابا حسنا وأن يكون على حذر منهم، ويسير بإرشادهم مع البقاء متيقظا ما أمكن، وأخذ ما عرضوه عليه من الرهائن والأقوات.
وسلم الرهن من الشبان والأولاد إلى قطعة أخرى من جيشه فساروا بمعية الجيش، ثم أشار إلى الأدلاء بالمسير أمام الجيش الذي اقتفى خطواتهم.
وسارت الفيلة في الطليعة يتقدمها ويحيط بها بعض الجنود لحمايتها، وتلتها الخيل والبغال المثقلة بأحمالها العسكرية والمئونة، وتلا هذه الجنود المشاة يمشون على غير انتظام صفا طويلا، وكان طول ذلك الصف الذي تقدم وصفه أميالا عديدة، وقد كان منظره من شرفات الجبال كمنظر حية كبيرة بين الأدغال، وملتفة حوالي الدروب المستديرة الموحشة.
وكان هنيبال مصيبا في احتسابه من أن الوفد الذي لاقاه كان لخدعه، فالذين أرسلوا الوفد أرصدوا كمينا في معبر ضيق استتر رجاله بين الصخور والغياض والمخابئ المختلفة، وهكذا فإنه عندما اقتاد الأدلاء الجيش إلى نقطة الخطر المتفق عليها بدت منهم إشارة معلومة، فخرج الكامنون من مخابئهم وانقضوا على الجيش من كل مكان انقضاض النسور، وشوشوا نظام صفوفه وجددوا ما لقيه في المعركة الأولى وتعالى الصياح، وملأت زمجرة الرجال هاتيك القلل، فرددت صداها الأغوار.
وقد يظن غير الخبير أن الهجوم يصوب أول كل شيء على الفيلة لتخويفها، وحملها على الجموح والطغيان، ولكن الأمر كان على العكس من ذلك، فإن الجبليين كانوا يخافونها لأنهم لم يروا مثلها من قبل ولهذا كانوا يرتعدون عند النظر إليها؛ لأنهم لا علم لهم بما لها من القوة وشدة البطش؛ ولهذا تحاشوها وابتعدوا عنها وعن الفرسان، وصبوا كل قوتهم على جيش المشاة الذي كان يسير في المؤخرة.
وأدركوا في أول الهجوم نجاحا عظيما فشقوا صف الجيش، وهزموا القسم المتأخر منه إلى الوراء، وكانت الجياد والفيلة مثابرة على المسير وعليها أحمالها، فأصبح الجيش قسمين منفصلين واحدهما عن الآخر، وكان هنيبال مع الجنود إلى الوراء، وظل الجبليون فائزين حتى خيم الغسق فتوقف الفريقان عن القتال؛ لأن العراك في مثل تلك الوعور لا يتأتى لأحد إلا على نور النهار.
وبقي الجبليون في موقفهم بين قسمي الجيش يحولون دون اتصالهما، وكان هنيبال في غضون الليل على مثل الجمر لا يدري ما الذي يفعله وجيشه ممزق على تلك الصورة، والفيلة والخيل بعيدة عنه وقد أصبحت تحت رحمة الأعداء، ولم ينم تلك الليلة بل كان يفكر ويتأهب للهجوم على الجبليين في اليوم التالي، وحالما انبثق الفجر هاجمهم وتغلب عليهم فدحرهم إلى مسافة تمكن بعدها من جمع شمل جيشه، ثم تابع المسير.
على أن الجبليين لم ينفكوا عن مناوأته، بل أجهدوا نفوسهم في التضييق عليه والاعتداء على جيشه من أبعاد مختلفة، فاستتروا في المكامن وكانوا يهاجمون القرطجنيين عند مرورهم من حيث كمنوا لهم ويقلبون الصخور عليهم، ويرمونهم بالنبال والسهام من مواقفهم الشاهقة القائمة فوق الجيش العابر، حتى إذا تأخرت فرقة من جيش هنيبال عن مجموع الجيش كانوا يحيطون بها ويأسرونها أو يسحقونها، وهكذا فإنهم سببوا لهنيبال تعبا وعناء عظيمين، فأعاقوه عن المسير وضيقوا عليه المضايق وذلك من غير أن يهاجموه بفريق منهم بحيث تسنح له فرصة مناهضتهم.
Неизвестная страница