وكان قائد هذه الفرقة ضابط اسمه هنو - وهو غير هنو عدو هنيبال الكبير الباقي في قرطجنة - فسار هنو ليلا مبتعدا عن النهر في بدء مسيره؛ لكيلا يراه العدو من الجانب الآخر يتقدمه الأدلاء من أهل البلاد الذين وعدوه بهدايته إلى مكان يسهل منه عبور النهر، فسارت تلك الفرقة على محاذاة النهر مسافة خمسة وعشرين ميلا، وهناك وجدوا النهر متسعا منبسطا والماء ضحضاحا والمجرى غير سريع.
فقصدوا ذلك المكان بسكوت وبمزيد التستر، بحيث لم يشعر بهم الأعداء الذين تحتهم على الضفة الأخرى، وكان عبورهم النهر من هناك سهلا جدا؛ إذ لا يوجد من يصدهم فابتنوا عددا من الأرماث، واحتملوا من لا يحسن السباحة من الرجال، وغير ذلك من المعدات الحربية التي يفسدها التبلل بالماء، وأما القسم الآخر منهم فعبر سباحة، وكانوا قد وضعوا الأتراس على بطونهم ليستعينوا بها على العبور.
وعلى هذه الصورة عبروا النهر وبلغوا الضفة الأخرى سالمين، وتربصوا هناك يوما كاملا لكي تجف ثيابهم وليأخذوا نصيبا من الاستراحة، ومن ثم ساروا بتمهل نزولا على جانب النهر إلى أن صاروا على مقربة من هنيبال بحيث يرى إشارتهم، وعندئذ أوقدوا النار وصاروا يتأملون في كثيف الدخان المتصاعد منها في الجو.
ورأى هنيبال النار، فأخذ من فوره يتأهب لعبور النهر بجيشه، فنزل الفرسان في القوارب ممسكين بأرسان خيولهم؛ لكي يقتادوها إلى الماء بحيث تتبعهم سباحة وراء القوارب، وحملت خيول أخرى في قوارب ذات قعر مسطح؛ لكي تبلغ الجانب الآخر غير مبللة، فيسهل استخدامها في الحال عند النزول إلى البر، وانتقى هنيبال أفضل رجال جيشه وعبر بهم النهر أولا، وأبقى الضعفاء والذين أصيبوا بتعطيل مع معدات الحرب؛ لكي يجلبهم جميعا بعد أن يكون القسم الأول من الجيش قد وصل إلى الجانب الآخر.
وكان الأعداء على الجانب الآخر من النهر يرتبون جموعهم، ويتأهبون لمهاجمة جيش هنيبال حالما يقترب من البر. وكان السكوت سائدا في معسكر هنيبال عندما كان جيشه يركب القوارب والأرماث ويبعد عن البر، ولكنهم عندما اقتربوا من تيار النهر علت صيحاتهم، وتتالت أوامر القادة للرجال بالجد في التجذيف، فأحدث اختلاط الأصوات وتدافع القوارب في مجرى النهر ضجة كبرى ومنظرا هائلا، وكاد الأمر يؤدي بهم إلى تشويش كبير لولا براعة المجذفين وصبرهم.
وحالما وصلت القوارب الأولى إلى البر تأهب الغاليون لمقاومة من فيها، ورموهم بكل ما لديهم من أدوات القتال وصاحوا فيهم صيحات دوت لها هاتيك الأنحاء، وكانت عادة أولئك الأقوام الإكثار من الصراخ عند الإقدام على القتال؛ لتحميس بعضهم بعضا وتحريك روح الشجاعة الهامدة، ولإرهاب العدو بتهديدهم ووعيدهم. أما ضباط هنيبال؛ فقد حثوا مسيري القوارب على التقدم، وحاولوا بكل صبر وترو الوصول برجالهم إلى اليابسة.
وفي الواقع أنه لو لم ينجدهم هنو برجاله من وراء الغاليين، لكانت نتيجة عبور النهر من الأمور التي يشك في نجاحها، فإنه بينما الغاليون يحاولون صد القرطجنيين إلى الوراء، ومنعهم من النزول إلى البر بتصميم ومجالدة عظيمين، ذعروا فجأة عند سماعهم صيحات أعداء قامت من وراء ظهورهم، فكانوا كمن انقضت عليهم الصاعقة، ولما التفتوا إلى الوراء أبصروا جنود هنو تنسل إليهم من بين الغياض والأدغال بحماسة شديدة واندفاع، كاندفاع السيل الجارف.
ومن الصعب، كما لا يخفى، على جيش أن يحارب من الأمام ومن الوراء في وقت واحد. فصبر الغاليون للعدو، وثبتوا لهذه المقاومة وقتا يسيرا، إلا أنهم في آخر الأمر انكفوا عن مقاومة نزول رجال هنيبال إلى البر، وولوا الأدبار على محاذاة النهر مسافة يسيرة، توغلوا بعدها في داخل هاتيك المجاهل تاركين هنو سيد تلك الضفة من النهر، فكانت هذه الحركة مما ساعد رجال هنيبال على الوصول إلى البر بدون عراك أو انزعاج، وحينما وصلوه استقبلهم هناك الأصدقاء بدلا من الأعداء.
ثم شرعوا في استجلاب بقية الجيش والمعدات الحربية من الضفة الأخرى، فأتموا ذلك بسهولة؛ لأنه لم يبق من الأعداء من يزعجهم أو يصدهم عن ذلك. على أن قسما من قوتهم الحربية قد سبب لهم عناء وإبطاء عظيمين؛ وذلك القسم هو الفيلة التي كانت تؤلف جانبا من الجيش، فإن نقل تلك الحيوانات الضخمة فوق نهر عريض سريع المجرى لم يكن من الهنات الهينات، وقد ذكر المؤرخون روايات مختلفة عن الطريقة التي تمكن بها هنيبال من إتمام ذلك، مما دل على أنه استخدم وسائل متنوعة كانت إحداها كما يأتي: أن القيم على الفيلة انتخب واحدا منها يختلف عن البقية بنشاطه وحدته، وشرع في إزعاجه وإيلامه لكي يستشيط غيظا، عندئذ هجم الفيل الهائج على سائقه رافعا خرطومه ليثأر لنفسه منه، فهرب السائق وتبعه الفيل وتبعته بقية الفيلة جريا على عادة هذا النوع من الحيوان في مثل هذه الظروف.
فهرب السائق إلى الماء متظاهرا بالفرار من الفيل، ولحق به الفيل الثائر ورفاقه. وسبح السائق هاربا إلى أن وصل إلى منتصف النهر، فلم تشعر الفيلة إلا وقد أصبحت في العمق فاضطرت إلى السباحة للنجاة، وكان بعضها ملاحقا للسائق جادا في طلبه إلى أن عبر النهر ووصل إلى الشاطئ الآخر، على أن قسما من الفيلة استولى عليه الخوف، فلم يجاهد واحتمله تيار الماء معه إلى مكان بعيد، وأصاب من اندفاعه مع التيار أماكن غير عميقة تجسسها، ونجا منها بعضهم إلى الشاطئ الواحد والبعض إلى الشاطئ الآخر.
Неизвестная страница