وبعد رحيله ووصوله إلى مصر سنة 572 سار الفرنج بجموعهم إلى حماة - وكان عاملها مريضا - فشددوا عليها الحصار، واجتمعوا حول السور حتى كادوا يفتحونها قهرا فجد سكانها في قتالهم، وأخرجوا الفرنج إلى خارج السور بعدما دخلوا بعض جهاته، واستمر القتل أربعة أيام ثم رحل الفرنج إلى مدينة حارم. وفي أثناء ذلك توفي عامل حماة شهاب الدين الحارمي - وتوفي ولده أيضا - فحزن عليه السلطان صلاح الدين، وسير إلى حماة ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر المجاهد العالم صاحب الخيرات والمبرات، وأمره بحفظ البلاد، فلما قرب من حماة خرج أهلها لاستقباله، فلم يلبث فيها إلا قليلا حتى ندبه عمه السلطان صلاح الدين إلى محاربة قليج أرسلان التركي صاحب بلاد الروم؛ فإن قليج أرسلان المذكور قصد أخذ مدينة رعبان من عامل صلاح الدين، فتوجه ملك حماة الملك المظفر تقي الدين عمر إلى حرب قليج أرسلان بألف فارس حموي، والتقى الجمعان على حصن رعبان، وكانت جيوش قليج أرسلان عشرين ألفا فهزمتهم العساكر الحموية، وعاد ملك حماة إلى حماة مفتخرا يقول: هزمت عشرين ألفا بألف.
وفي سنة 582 ألحق السلطان صلاح الدين الأيوبي بمدينة حماة منبج، والمعرة، وكفرطاب، وميافارقين وجعلها من توابع حماة. وفي سنة 584 سار السلطان صلاح الدين إلى جبلة فتسلمها، ثم حاصر اللاذقية فتسلمها أيضا وسلمها لملك حماة، فشرع ملك حماة في إعادة بنيان قلعتها وتحصينها كما كان فعل في قلعة حماة؛ فإنه شاد ما تشعث من بنيانها، ثم عاد من اللاذقية وقد طمح بصره إلى توسيع نطاق المملكة الحموية، فسار بعسكره إلى ما وراء الفرات وملك حران وغيرها، واستولى على السويداء ومدنا كثيرة في حروب عظيمة، وبينما يجد في الفتوح أدركه المرض ثم الموت فتوفي في رمضان يوم الجمعة سنة 587، وكان معه ولده الملك المنصور محمد فأخفى خبر موته ورحل به إلى حماة ودفنه في ظاهرها، وبنى إلى جانب التربة مدرسة، وسيأتي ذكرها.
ثم ملك حماة بعده ابنه الملك المنصور محمد - المذكور - بأمر عم أبيه صلاح الدين، غير أن صلاح الدين أخذ منه البلاد التي افتتحها أبوه وأبقى له منها منبج وقلعة المضيق وسلمية والمعرة تابعات لحماة. ثم جهز الملك المنصور جيشه وسار إلى فتح قلعة بارين
4
فحاصرها ونصب عليها المجانيق، فأصابه سهم بيده فجرحت حين الزحف فلم يرجع وبقي مجدا في فتحها حتى فتحها في 29 ذي القعدة سنة 595، وأقام بها مدة لإصلاح شئونها ثم رجع إلى حماة. فلما بلغ خبر فتحها الملك العادل ابن أيوب أمر باسترجاعها لصاحبها ابن المقدم، فلم يرض صاحب حماة بذلك، وأخيرا سمح لابن المقدم بمنبج وقلعة نجم
5
عوض بارين فرضي بذلك. وفي سنة 597 كتب الملك الظاهر صاحب حلب لملك حماة أن ينضم إليه ليتحدا ويحاربا عمهما الملك العادل خليفة صلاح الدين، ووعده إن انضم إليه أن يعطيه قلعة المضيق ومنبج، فلم يرض بذلك ملك حماة وأحب أن يدوم ولاؤه للبيت الأيوبي، فغضب الظاهر وجهز جيشا كثيفا، وسار إلى فامية ومنها إلى حماة وخيم حولها، فحاصرت وأغلق أهلها أبواب السور ، فخربت عساكره المقابر لكثرتها، ثم هاجموا حماة من باب السور الغربي في محلة المدينة فوقعت فيه معركة عظيمة، ثم فرق العساكر على الباب الغربي والباب القبلي وباب العميان - وكلها في محلة المدينة - فقاتلوا قتالا شديدا، ورمي الملك الظاهر بسهم في ساقه فجرح، واستمرت الحرب أياما حتى ضاق الخناق على الحمويين، ثم جرى بين الفريقين الصلح على أن يدفع ملك حماة ثلاثين ألف دينار غرامة حربية فدفعها للملك الظاهر، ورحل عنها إلى دمشق ليملكها فلم ينجح، وعاد إلى حلب فطلبه الملك العادل لينتقم منه، وسار من مصر طالبا إياه حتى وصل إلى حماة وحل ضيفا عند ملكها، وكان نزوله على تل صفرون
6
فقام الملك المنصور بإكرامه، وكان خبر قدومه إلى حماة بلغ ابن أخيه ملك حلب فأرسل إليه يلاطفه ويعتذر إليه، وأرجع المعرة إلى ملك حماة بعد أن أخذها منه، ولم يزل يسترضيه حتى رضي ورحل إلى دمشق راضيا. وفي سنة 599 قصد الفرنج حماة من حصن الأكراد وطرابلس وغيرهما فتلقاهم الملك المنصور لبعرين، وأنجده ملك بعلبك وملك حمص، وهناك اشتعلت نيران الحرب وامتدت في صحاري بعرين في زمن شهر الصوم، فكانت الهزيمة على الفرنج بعدما تركوا قتلى وأسرى لا تعد، فعاد ملك الديار الحموية إلى بعرين من ميدان الحرب ظافرا فاستقبله الفاضل بهاء الدين السنجاري مادحا له بقوله:
ما لذة العيش إلا صوت معمعة
Неизвестная страница