زمانكم لم يتقيد به
ومطلب في الظن مستبعد
كالصبح للناظر في قربه
اليأس لا يجمل من مؤمن
ما دام هذا الغيب في حجبه
شوقي شاعر كثير الألوان متعدد الصور، فله في القومية جولات نكبرها، وفي الدين خطرات يقف الأديب عندها وقفة طويلة، وله في الخلاعة مرقصات كاد يبز فيها أبا نواس، شاعر الخمريات في عصر العباسيين، وله في غير هذه المواقف أشياء لا نعرض لشيء منها الآن حرصا منا على فراغ هذه الصحيفة أن نملأ منه أكثر مما نستحق في هذا الموطن، على أني لست من الذين يقولون: إن لشوقي شخصياته المتعددة، فهل هو في قومياته أبين أثرا منه في خمرياته؟ وهل هو في دينياته أبرز شخصية منه في الوصف؟ أما إذا كانت الطبيعة قد خصت شوقي بشيء من هذا فإنها قد خصته بالقدرة على النواح على المجد الزائل من المدنية الشرقية بعد أن اندك قائمها وغاصت في ثرى الزمان قوائمها، فإنه إن بكى مجد المصريين، أو ناح على مدنية العباسيين، أو رثى دمشق الشام أو طليطلة الأندلس، فإنه إنما يبكي الشرق ممثلا فيما كان له من مجد زال، ومدنية جاءت عليها الأزمان فدالت ودرست آثارها، فهو شاعر الشرق الباكي عليه النائح على مجده القديم في أي لون تكون ذلك الشرق وفي أية ناحية كان، وبأية صبغة اصطبغ.
والحق أن لشوقي في ذلك مواقف كانت قدرته الفطرية على الوصف أكبر عون له على تصوير مشاعره فيها تصويرا كاد يخرج به عن تلك الدائرة التي لم تتسع إلا لغير ما خلق له شوقي، دائرة السياسة مصروفة إلى تلك الفكرة القديمة، فكرة الجلاد بين الشرق والغرب، لا ليكونا متكافئين، بل ليسود أحدهما على الآخر، ولتكون السيادة في الدنيا للأول دون الثاني.
ولم يكن لشوقي من بد وهو مغمور في بحر السياسة اللجي منذ نظم الشعر وهو في صباه، من أن يشيد بذكر الخلافة، وأن يشبب بالاستقلال، تلك أشياء كان مقسورا على أن يجعلها المحور الذي تدور من حوله أشعاره، وهو في هذا إلى ناحية الدعاية السياسية أدنى منه إلى وصف المشاعر التي كانت تنطوي عليها نفسه، وما ظنك بشاعر يشب في بيت محمد علي وتحت كنفه وهذا البيت تابع لدولة الخلافة؟ لم يكن له من بد أن يشيد بذكر الخلافة، وأن ينصرها على أوروبا كلها، حتى إذا هدم ركنها وزالت دولتها أصبحت وأحلام الشاعر القديمة في غلاف واحد من النسيان مطوية مع ذكريات الماضي، لا تستحق رثاء ولا نواحا، وما ظنك بشاعر يشب في كنف عباس الثاني فيجد أميره في صراع دائم مع المحتلين لبلاده وعلى رأسهم سياسي شديد المراس يقود الحكومة، وآخر جندي عنيد يقود الجيش؟ لم يكن له من بد أن يتغنى بالاستقلال والجلاء، خدمة لأغراض السياسة لا خدمة للشعر، ولا إرضاء للشاعرية.
إنما أرضى شوقي شاعريته في تشبيبه بالشرق والشرقيين، وهو في هذه الناحية أصح نزعة منه في كل منازعه الأخرى، فهو بحق شاعر الشرق العربي لغة، وشاعر الشرق كله عاطفة ووجدانا.
أما إذا أردنا أن نستطرد في بحث شوقي بحثا يرضي نزعة العصر الحديث في النقد فإنا لا شك ننبو عما قصدت إليه السياسة الأسبوعية من هذه الأبحاث، لهذا نجمل القول، وجملته أننا أرضينا في هذه الأسطر نزعة العصر الجديد، ولعلنا نكون قد أرضينا شاعرنا الكبير بأن صورناه كما نراه صورة حقة لا خيالا بعيدا عن الحقيقة التي نقدسها ويقدسها هو من قبلنا، والسلام.
Неизвестная страница